بقلم: سامي يعقوب

للمزيد من هذه السلسلة:

عائلاتنا والأزمة ١          عائلاتنا والأزمة ٢          عائلاتنا والأزمة ٣      

عائلاتنا والأزمة ٤          عائلاتنا والأزمة ٥


من الطبيعي والمتوقع عادة أن يودع الأبناء آباءهم إلى الأبدية.. أما العكس فهو أصعب مما يمكن أن يُعبَّر عنه بكلمات بشرية. ولعلنا جميعًا شعرنا بلوعة أن يُفقد أبناء في عمر الزهور بعنف وقسوة غير مبررين، لمجرد وقوفهم من أجل الحق.. الحق الذي يمس كل مسيحي في بلادنا، ويهم أيضًا كل منصف وحر من شركاء الوطن. 

 لقد ظللت أفكر طوال الأيام الماضية أن ابنينا ليسا أفضل من أي ابن قُطفت حياته مبكرًا يوم الأحد الماضي.. وشعرت أن الحياة تصبح بلا قيمة إذا عشنا فقط لأنفسنا، أو إن رأيناها أثمن من أن يُضحى بها من أجل قضية ومستقبل شعب ووطن .

وأصعب ما يمكن أن نواجهه في مثل هذه الظروف الصعبة هو الأسئلة التي تبدأ بأداة الاستفهام: "لماذا؟".. لماذا الغدر؟ لماذا الموت المبكر؟ لماذا الظلم؟ لماذا تغيب محبة لها تاريخ وتسود القسوة في لحظة غضب؟ لماذا الرفض من الآخر الذي توحدنا معه طوال السنين في كل حلوة ومُرة مرت بها بلادنا؟ ولماذا يسمح الله أن نختبر كعائلات وككنيسة هذه الظروف القاسية، مع أننا نعبده بصدق؟ ليس من السهل أن نجد إجابات مقنعة على مثل هذه التساؤلات؛ خاصة لأن البعض قد يرى فيما نجتازه في هذه الأيام ما يتناقض ظاهريًا مع محبة الله لنا. لكن الكتاب المقدس يؤكد أن الله إله محب، ومحبته لنا جعلته يرسل ابنه الوحيد ليموت عن خطايانا، حتى ننجو نحن من الدينونة التي نستحقها. ومع ذلك يبقى السؤال: "لماذا؟ "

في ظل مجريات الأحداث التي تحيط بنا وجدت في كتيبات "عندما لا نفهم"، والتي وُزعت مع وطني الشهر الماضي، تشجيعًا وتعزية ليس فقط لكل مَنْ أصابته المحنة مباشرة، بل وكل مَنْ يشعر بالألم والإحباط بسبب ما رآه أو سمعه عبر وسائل الإعلام غير المنصفة .

تُرى هل يقصد الآب السماوي أن يسمح لأولاده أن يجتازوا ضيقات حتى يظلوا أقوياء في الإيمان؟ بدون أي استخفاف بما نشعر به من حزن وضيق، أقول لاشك في ذلك! وهذا ما أخبر به الرسول يعقوب المسيحيين في القرن الأول الميلادي: "احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة، عالمين أن امتحان إيمانكم يُنشىء صبرًا" (يعقوب ١: ٢ و٣). وقبل الرسول يعقوب علَّمنا السيد المسيح نفس المفهوم بأكثر وضوحًا؛ فحتى يساعد التلاميذ، ويُعدنا نحن أيضًا لنتوقع الألم، قال لهم: "قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يوحنا ١٦: ٣٣ ).

لقد قدم الرب يسوع نفسه مثالاً يُجسد لنا الخضوع في وقت الألم، وذلك عندما طلب من الآب في بستان جثسيماني أن يرفع عنه كأس الموت. لقد كان يعرف ما معنى الصلب، وكانت ضغوط آلامه وحزنه شديدة جدًا؛ حتى أن قطرات دم كبيرة اخترقت مسام جلده، ومع ذلك في وسط آلامه صلى قائلاً: "... لتكن لا إرادتي بل إرادتك" (لوقا ٢٢: ٤٤). ألا نحتاج ككنيسة وكعائلات لأن نتبع مثال صلاة ربنا ومخلصنا عندما نجتاز في الضيقات؟

لعل قصة الشباب شدرخ وميشخ وعبدناغو، والتي وردت في سفر دانيال الأصحاح الثالث، أفضل ما يمكن أن نتذكره في هذه الفترة من حياتنا. لقد جلبوا على أنفسهم غضب الملك نبوخذ نصر عندما رفضوا السجود للتمثال الذي أقامه، في وقت أعلن الملك فيه بوضوح أن مَنْ يعصى أوامره سيُلقى في "أتون النار". أما جوابهم على هذا التهديد بالقتل فكان من أروع ما سجله الوحي الإلهي: "هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة، وأن ينقذنا من يدك أيها الملك، وإلا فليكن معلومًا لك أيها الملك، أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته" (دانيال ٣: ١٧ و١٨).

 أي شجاعة أظهرها هؤلاء الشباب في مواجهة الموت المحقق؟! ما أعظم قناعاتهم، وأعمق إيمانهم! كلمة "وإلا" جاءت في أصل اللغة بمعنى "حتى وإن لم ينقذنا".. "حتى وإن كان الأمر يعني موتنا، فإننا سنعبده هو في كل الأحوال!" ولعله من المعزي والمشجع لكل مسيحي يقرأ هذه الكلمات أن يتذكر كيف أن نبوخذ نصر عندما نظر إلى أتون النار المتقدة رأى أربعة رجال بدلاً من ثلاثة، والرابع كان شبيهًا بابن الآلهة. وفيما بعد، الشباب الثلاثة فقط هم الذين خرجوا من أتون النار.. أما الرابع- الذي نؤمن أنه كان المسيح- فقد بقي هناك ليعزيني ويعزيك، ويحميني ويحميك عندما نجتاز نحن في أتون التجارب المحرقة.. إنه لن يتخلى عنا أبدًا، حتى وإن كان يسمح لنا بالضيقات !

أيتها القلوب المحبطة بسبب ما حدث في ماسبيرو الأسبوع الماضي، وأيتها النفوس النازفة بسبب فقدان ابن غالٍ، زوج أو خطيب أو صديق لم يبخل عن أن يقدم حياته لأجل كنيسته وحرية وطنه.. يا كل المتعطشين لكلمة تعزية وتشجيع، لننتهز فرصة هذه الظروف الصعبة لنجدد ثقتنا بإله السموات والأرض، ولنجد راحتنا في كلمة الله التي لا تتغير أو تزول. فالله لا يربكه ما يحدث معنا أو ما تمر به بلادنا؛ فهو يُمسك الأكوان بيديه، ويؤكد لكل واحد منا اليوم وعده: "لا تخف لأني معك، لا تتلفت لأني إلهك، قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين بري" (إشعياء ٤١: ١٠).

فلنتشجع إذن، ولا نسمح للظروف أن تحبطنا، لنتوقع أيامًا أصعب قد تأتي علينا، عالمين أن الله يستخدم الضيقات ليحقق مقاصده.. في الواقع بل وسيستخدمها لأجل خيرنا؛ ولنتطلع معًا إلى الوقت الذي تصبح فيه ضيقاتنا الحالية مجرد ذكرى باهتة عندما نعبر نهر هذه الحياة ونلتقي به هناك. إن يوم الفرح آتٍ وكأن شيئًا لم يحدث في تاريخ البشرية.. عندما نسجد بين يديه، ونسمع صوتًا يدوي من السماء قائلاً:" هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت" (رؤيا ٢١: ٣ و٤).


 (نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١٦ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١١)

Copyright © 2011 Focus on the Family Middle East. All rights reserved.