بقلم: سامي يعقوب

اعتادت طائفة من الهنود عندما يجري الواحد منهم أن يتوقف قليلاً ليسترد روحه ظنًا منه أنها تخلّفت عنه في الطريق! تذكرت هذه القصة خلال الأيام الماضية، والحوار عن شخص وحياة البابا شنودة لايزال يملأ السمع والبصر، ولعل هذا سيستمر لسنين آتية. ولا عجب في ذلك؛ لأن «نظير جيد» كان «بلا نظير»! لكني أريد أن أدعو كل محبي البابا اليوم أن نتوقف للحظات لنفكر كيف تتحول المشاعر التي فاضت داخلنا، وغمرنا بها أحباؤنا من شركاء الوطن، إلى طاقة تعمل في داخلنا لنعزم بالاتكال على قوة الله أن نسير على نفس درب الحياة الذي سار فيه البابا حتى آخر لحظة من عمره. لقد كان ناظرًا إلى رئيس إيماننا ومكمِّله، الرب يسوع، الذي تحمل الصليب مستهينًا بالعار؛ من أجل الفرح الذي كان ينتظره.. أي فرح كان ينتظره الرب يسوع؟ أن يجلس عن يمين عرش الله (عبرانيين ١٢: ٢).

كلمات البابا الأخيرة، والتي يحكيها لنا الآباء الأجلاء الذين أحاطوا به في ساعات انطلاقه، تؤكد أنه كان يشعر بما عبّر عنه الرسول بولس في نفس هذا الموقف: «فإني أنا الآن أسكب سكيبًا، ووقت انحلالي (ساعة رحيلي) قد حضر. قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي (أتممت شوطي في الجهاد)... وأخيرًا قد وُضع لي (أو ينتطرني) إكليل البر (الذي يكافئني به الرب).» (٢ تيموثاوس ٤: ٦- ٨).. إذن فهناك ما يتطلع إليه المؤمن وينتظره في المستقبل، ومنه يستمد قوة في أيام جهاده ليتغلب على التجربة والألم، ويستطيع أن يثبت على أمانته للرب في كل الظروف، ويتمتع بالمحبة الإلهية، ونعمة المسيح، وينال يومًا بعد يوم رحمة وعونًا، حتى ينجز بفرح العمل والمسؤولية اللذين دعاه الله ليتممهما في حياته.

خلال الأيام التي تلت رحيل البابا تمتعت بحوارات أبوية جمعتني مع أسرتي عن الحياة والموت، وعما ينتظر المؤمنين بيسوع المسيح عندما تعبر حياتهم كالنسمة، والتي مهما طالت فهى كأشبار. وقد بدأ حوارنا بالسؤال: "ما أكثر الذي يُخيف الإنسان.. أي إنسان في هذا العالم؟" والإجابة على هذا السؤال لاتحتاج لكثير من التفكير.. إنه الموت. هناك الكثير الذى يُخيفنا عند التفكيرفي الموت؛ فأكثر من خوف الإنسان مما يمكن أن يشعر به في اللحظة التي تفارق فيها روحه جسده هو خوفه من المجهول فيما وراء القبر. وما بين التساؤلات والرجوع إلى كلمة الله، أتيحت لنا فرصة رائعة لنجدد عزيمتنا لنستمر في حياة الجهاد مع المسيح الذي غلب الموت بقيامته، وأعطانا رجاءً حيًا أنار حياتنا وأبديتنا. واتفقنا على أن ما نؤمن به عن أبديتنا يؤثر بشكل مباشر على حياتنا وسلوكنا.. على عزيمتنا واختياراتنا في الحاضر.

وما هو الذي نؤمن به عن أبديتنا؟ نحن نؤمن بما سجله الوحي المقدس على فم الرسول يوحنا، أن الله قد أعد لنا سماء جديدة وأرضًا جديدة.. أورشليم السماوية التي يسكن فيها الله وسط شعبه، ويكون إلهًا لهم، ويمسح كل دمعة من عيونهم، ولا يكون هناك موت أو حزن.. لا صراخ أو وجع؛ لأن كل الأشياء التي نعايشها الآن ستزول آنذاك (رؤيا يوحنا ٢١: ١- ٥). بالمناسبة، لقد كتب يوحنا هذه الكلمات ليشجع مؤمنين كانوا على وشك اختبار أقسى فترات الاضطهاد التي مرت بها الكنيسة الأولى على يد الإمبراطور دومتيانوس.. وقد قصد الوحي بهذا الوصف للأبدية أن يقويهم بتحويل أنظارهم إلى فوق، فيستمدون ثباتهم وشجاعتهم من معرفة ما ينتظرهم بعد أن ينطلقوا إلى هناك حيث ينضمون إلى كل الذين مضوا على الرجاء الذي لهم في المسيح.. تُرى هل هذا ما كان يمكن أن يعظ به الرسول يوحنا الكنيسة اليوم لو أتيحت له الفرصة؟

عند رحيل الأحباء عن الحياة الحاضرة، سواء بانتقال مفاجىء أو مبكر؛ عندما يعتصرنا الألم ونحن نرى البعض ينسحبون تدريجيًا من الحياة تحت وطأة آلام المرض والعلاج الذي يدمر مع أننا كنا نرجو أن يشفي؛ وحتى مع رحيل الأجداد الذين قضوا العمر في خدمة الله والناس، وعاشوا حتى أدركوا السبعين من العمر، أو حتى مع القوة تخطوا الثمانين- بحسب قول رجل الله موسى في المزمور التسعين.. في كل هذه الحالات يترك الفراق بالموت نوعًا فريدًا من الألم في القلب يستغرق وقتًا طويلاً حتى يشفى، ويصبح نبعًا متجددًا لذكريات رائعة نستمد منه الكثير من الشجاعة عندما نواجه صعوبات وآلام الحياة.. هذا ما أختبره أنا شخصيًا اليوم عندما أعود بذاكرتي لأيام حياتي مع أبي وأمي اللذين انضما لصفوف المنتصرين منذ زمن؛ والذي أدعوكم جميعًا للسعي لاختباره بينما ترثون رحيل البابا. وسعينا للتمتع بهذا الاختبار لا يتحقق إلا إذا فتحنا قلوبنا لتكون على استعداد لقبول تعزية الله أبو ربنا يسوع المسيح بعمل روحه القدوس فينا لندرك ما ينتظرنا في المستقبل.

ومتى امتلأنا بالتعزية الإلهية ككبار، سنستطيع أن نُطمئن أبناءنا أيضًا بينما نجلس معهم لنستمع إلى صوت المسيح يقول لنا: «لا تضطرب قلوبكم، أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة، وإلا فإني كنت قد قلت لكم: أنا أمضي لأعد لكم مكانًا، وإن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتي أيضًا وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا، وتعلمون حيث أنا أذهب، وتعلمون الطريق.» (يوحنا ١٤: ١- ٤).


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١ أبريل / نيسان ٢٠١٢)

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved