بقلم: سامي يعقوب

هل ذهبت إلى صندوق الاستفتاء على الدستور واخترت "لا"؟ لعلك تشعر مثلي بنوع من اليأس الذي لا يخلو من حزن لأن الدستور قد جاء بفرض الأمر الواقع علينا، وبدون توافق بين الأشقاء؛ فلم يحقق الحد الأدنى للمتطلبات التي قامت من أجلها ثورة يناير! لقد ركزت القوى المدنية على مخاطر تطبيق الشريعة، وتشتت جهودها بالهجوم على الإخوان بدلاً من تقديم البديل العملي المناسب في مواجهة أطروحة الإسلاميين.. فجاءت النتيجة مخيبة للآمال. لقد تمزق الوطن بشكل غير مسبوق، ولا يخفى على أحد أننا مقبلون على أزمة اقتصادية لا نعلم إلى أين يمكن أن تأخذنا! فهل بعد هذا نستطيع اليوم أن نتجاوب مع دعوة الملاك للرعاة في الميلاد: "لا تخافوا! فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكم اليوم.. مخلص هو المسيح الرب"؟ أي فرح هذا الذي يمكن أن نختبره اليوم وسط الضغوط المتنوعة التي تحيط بنا؟ وكيف نفرح بينما تجددت آلام حادثة القديسين الإرهابية بالهجوم الغادر على كنيسة مصراتة؟

أمام هذا التساؤل نحتاج لمراجعة الفرق بين الفرح والسعادة.. ولعل فهمنا للمعنى اللغوي لكل منهما يمكن أن ينقلنا من يأس "لا" للدستور، ومعاناة الحاضر، إلى سلام "لا تخافوا" الميلادية، والرجاء في المستقبل الذي يتجدد مع كل عيد ميلاد. تعريف السعادة في قواميس اللغة هي تلك المشاعر التي ترتبط بالظروف المواتية، وبوفرة مصادر المعيشة.. بالنجاح وتحقيق الأحلام، بسهولة الحياة وغياب المضايقات. فالسعادة إذن ترتبط بما هو خارجنا وما يحدث حولنا. أما الفرح فهو الشعور العميق النابع عن فيض الرضا والاكتفاء والثقة التي تغمر القلب الذي يؤمن بالله، ويرتبط اختباريًا بشخص المسيح ابن الله الحي. السعادة تعتمد على الأحداث والظروف، أما الفرح فهو ما يشعر به الواحد منا بمعزل عنهما! لقد وردت مفردات كلمة "سعادة" في الكتاب المقدس ٣٠ مرة فقط، بينما جاءت كلمة "فرح" في أشكالها المتعددة ٣٠٠ مرة.

حتى لا يتحول العيد إلى موسم للاحتفال المجرد من المعنى، والذي يقتصر على تبادل الهدايا، والملابس الجديدة للأبناء، واللقاء مع الأحباء؛ اعتدنا كأسرة أن نمارس تقليد الجلوس معًا حول النصوص الكتابية المرتبطة بما نعيد لأجله. في هذا العام وقفت مبهورًا للمرة المائة (على الأقل) أمام ما سجله الوحي على فم البشير لوقا عن بشارة الميلاد للعذراء مريم أولا، ثم للرعاة البسطاء في ليلة الميلاد. ولأن ذهني كان مشغولاً بـ "لا"؛ فقد لمع أمام عينيّ قول الملاك للعذراء: "لا" تخافي يا مريم لأنك وجدت نعمة عند الله.. وبشارته للرعاة: "لا" تخافوا! فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب.

لم تكن مفاجأة عادية على العذراء أن تجد ملاكًا يتحدث إليها، كما لم يكن سهلاً عليها أن تدرك أن حياتها مقبلة على واقع جديد لم تكن تفكر فيه.. لكنها قبلت بتواضع أن تتغير حياتها بشكل جذري تجاوبًا مع الاختيار الإلهي لها؛ فاختبرت قوة العلي تعمل فيها، وصنعت تحولاً غيّر تاريخ البشرية بالقدوس المولود منها: ابن الله. مفاجأة التغيير كانت غير متوقعة، ورهبة المسؤولية كانت تفوق تحمل أي بشر، إلا أن العذراء أتاحت نفسها بالكامل لمشيئة الله، وأجابت الملاك: "ليكن لي كقولك!" هنا تفجّر داخلها فرح مجيد عبرت عنه بتسبحتها الخالدة: "تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي!" الملاك لم يُغيب مريم عن حقيقة ما كانت ستختبره من آلام في واقعها الجديد، لكنه حوّل خوفها وقلقها إلى فرح وقوة بوعد معية القدير، الذي لم يفارقها ولا لحظة طوال أيام رحلتها مع القدوس المولود منها من المذود إلى أحد القيامة! المواعيد الإلهية تجدد القوة والعزيمة بينما نكمل مسيرة غربتنا في هذه الحياة، لكنها لا تغيبنا عن حقيقة ما قد تتضمنه الأيام من سيف قد يجتاز في النفس، مثل الذي اجتاز في نفس العذراء مريم.

الروح القدس الذي حل على مريم العذراء، وظللها بقوة العلي، هو نفسه الذي عمل في حياة الرسول بولس، فكتب إلى كنيسة فيلبي رسالة فرح.. كتبها وهو يعاني الاضطهاد بسبب إيمانه بالمسيح. ولعل هذه الرسالة هي أفضل ما يشرح لنا من النصوص المقدسة الفرق بين السعادة والفرح. وقد استخدم الرسول كلمة "فرح" في أشكالها اللغوية المختلفة ست عشرة مرة ليعلمنا كيف يمكن أن يكون لنا فرح حقيقي في المسيح يسوع بالرغم من الظروف. فبينما كان مقيدًا بسلاسل، وقد أوشكت حياته على الانتهاء، حدثنا عن إيمانه وثقته بالمسيح، وكيف تغيرت وجهة نظره عن المعاناة والاضطهاد من أجل المسيح (فيلبي ١ :١٢ ـ ١٤). ووسط كل هذا نسمع هتافه: "افرحوا في الرب كل حين".. ثم يختم الرسالة بإعلان إيمان يخاطبنا اليوم، وكأنه يرى من بعيد  ما نمر به من أزمة: "فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع" (فيلبي ٤ :١٩). لم أستطع أن أتجاوب هذا العام مع نداء الملائكة لنا بأن نفرح بميلاد المسيح بمعزل عن المكتوب في رسالة فيلبي.

في هذا العيد أدعو كل أسرة أن تقضي وقتًا-ولو قصيرًا، ربما حول مائدة طعام العيد، لتقرأ ترنيمة العذراء في إطار ما يحدث اليوم في بلادنا.. فلعل هذه التسبحة تفجر في داخلنا اليوم نفس الفرح الذي عبرت عنه بهذه الكلمات الرائعة: "تعظم نفسي الرب بالرغم من الظروف، وتبتهج روحي بالله لأنه مخلصي.. لأن رحمته التي كانت مع آبائنا ممتدة لتكون مع جيلنا حتى اليوم، وجيل أبنائنا في الغد. الله الذي أظهر قوته معي يهلك المتكبرين في قلوبهم، وينزل الجبابرة عن عروشهم؛ لكنه يرفع المتضعين، ويشبع الجياع بخيرات، ويصرف الأغنياء فارغين." (قراءة شخصية لأجزاء من تسبحة العذراء مريم).

السعادة لا قيمة لها بدون الفرح.. أما اختبار الفرح فممكن بعمل الروح القدس في داخلنا، حتى إذا لم تتوفر السعادة. فلنسمح للروح القدس، شخص الله المبارك، أن يعمل في قلوبنا في هذا العيد، فنفرح حتى وإن ضاقت الأحوال..  وكل عام وأنتم بخير


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٦ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٣) 

Copyright © 2013 Focus on the Family Middle East. All rights reserved