بقلم: سامي يعقوب

الآلاف ذهبوا إلى كنائسهم التي أُحرقت ليتعبدوا كعادتهم كل يوم أحد، وقد ارتفعت تسابيحهم وسط الرماد والحطام الذي خلفته هجمات مَنْ أوصانا إلهنا أن نُحبهم ونُباركهم.. أن نُحسن إليهم، ونُصلي من أجلهم! ولأن الجدران انهدمت، والنوافذ احترقت؛ فقد خرج صدى صوت الألحان والترانيم يتردد كهتاف الغالبين في أرجاء الأحياء، وجوانب القرى التي اكتوت بنار الإرهاب، في إعلان لم يسبق له مثيل أن الكنيسة ليست جدرانًا تُهدم أو مذابح تُحرق! «كنيسة المسيح» بحسب وصف الرسول بطرس ليست هي المباني وما بداخلها من أثاث.. إنها «بيت روحي» مبني من «حجارة حية»، يربطها معًا «حجر زاوية حي» اسمه يسوع المسيح، ابن الله الحي.. «والذي يؤمن به لن يُخزى»، أما لغير المؤمنين فهو «حجر عثرة وصخرة سقوط» (كلمات من ١بطرس ٢ : ٤ـ-١٠).

يا كنيستي.. لقد تحررنا الآن من قيود الجدران وديكورات المكان.. فالله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.. في خشوع أمام جلاله، وانبهار ببهاء قدسه (مزمر ٩٦ : ٩).

 

يا كنيستي.. لقد جاءك اليوم الذي فيه تكفين عن السعي وراء طلب تصريح بناء أو ترميم؛ فجيش بلادك، الذي اشترك أبناؤك مع الملايين في تفويضه ليحرر البلاد من الإرهاب، قد كلف رجاله للقيام بهذه المهمة نيابة عنك.

 

لعلي أظن أن «مصر ٣٠ يونيو» التي لا تقبل أن يتدخل العثمانيون المعاصرون في اختيارها للحرية، لن ترضى بعد اليوم أن يظل «الخط الهمايوني» أداة ظلم تُلهب ظهر العباد الذين يريدون فقط أن يبنوا ديارًا ليعبدوا الله فيها! (لمَن لا يعرف، «الخط الهمايوني» قانون عثماني أصدره السلطان عبد المجيد الأول في فبراير عام ١٨٥٦، وكان القصد منه إعفاء غير المسلمين من الممارسات العنصرية للعثمانيين الذين ابتلت بهم البلاد لعدة قرون. كما كان يُقنن حقوق مواطنتهم كجزء أصيل من الأمة.. وينص في أحد بنوده على تنظيم بناء دور العبادة للمسيحيين واليهود بالحصول على تصاريح البناء من أعلى سلطة في الدولة. لكنه تحول مع الأيام من قانون ينظم الحقوق إلى روتين لممارسة الكراهية وعدم قبول الاختلاف في العقيدة).. عثمانيو الأمس، مثل «أردوغان» اليوم، لا يضمرون حبًا للمصريين مسلمين ومسيحيين، ولم يريدوا يومًا الخير لبلادنا.. فيا مَنْ تنادون بمقاطعة المسلسلات التركية الفاقدة للمعنى والمضمون، ألا يجدر بنا أن نقاطع أيضًا مسلسل العذاب «الهمايوني» الذي أفقد أقباط مصر الكثير من معاني المواطنة؟

يا كنيستي.. لقد أُتيحت لك فرصة ذهبية لتعلني للذين أحرقوا مذابحك، وداسوا صلبانك أن إيمانك لا ينهار بهدم الجدران أو تدمير الأديرة.. الإيمان الحقيقي يسكن القلب وليس المعابد المبنية بالحجر، مهما اتسع صحنها أو ارتفعت مآذنها ومناراتها.. إنه الإيمان الذي عبّر عنه شباب كنيسة إنجيلية في السويس أثناء عبادة الأحد في كنيستهم التي احترقت بلافتة تقول: «أخويا المتطرف.. أنا جيت أصلي لك النهاردة!» وهو نفس الإيمان الذي عبرت عنه بشجاعة كنيسة «مارجرجس» بشارع قلتة بأسيوط، مهد ذكريات طفولتي، بتعليق علم مصر عاليًا على مبناها المحترق، مكتوب عليه: «نحن نغفر»!

أما الرماد الذي غطى الكنائس فلابد أن يُذكرنا بنبوة النبي إشعياء عن المسيّا في الأعداد الأولى من أصحاح ٦١: فالمسيح قد جاء ليبشر المساكين بالخلاص، ويجبر القلوب المنكسرة، ويحرر المأسورين بالخطية، ويعزي جميع النائحين في صهيون.. التي لا يقصد بها سكان أورشليم الذين عايشوا نبوة إشعياء، بل أبناء الكنيسة الذين يُضطهدون ويُظلمون في كل عصر ومكان. ثم يقول في العدد ٣: «لأعطيهم جمالاً عوضًا عن الرماد! ودهن فرح عوضًا عن النوح، ورداء تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة»، فيكونون كأشجار السنديان (الأرو)، غروسًا تعلن مجد الرب! أعرف أن هذه النبوة تتحدث مباشرة عن الخلاص الذي يتحقق بمجيء المسيا، وعن رجاء وعده بأن يمسح كل دمعة من عيوننا، ويريحنا من أتعابنا عندما نلتقي به على الجانب الآخر من نهرالحياة. لكن قراءتها مجددًا في ظل ما تجتازه الكنيسة اليوم يُعطيها بُعدًا آخر: الله إلهنا هو وحده القادر، وبشكل مذهل، على تحويل أكثر الظروف ترويعًا، وأشد الاضطهادات إيلامًا إلى إعلان مجيد لحكمته ومحبته وسلطانه!

كان الناس قديمًا في وقت المصائب، ولا يزالون في بعض الأماكن، يهيلون فوق رؤوسهم رمادًا وعفرة، ويلبسون المسوح، ولا يتعطرون؛ تعبيرًا عن حزنهم.. عبارة «أعطيهم جمالا» تعني في النص العبري أن الله هو الذي يستطيع أن يستبدل رماد الحزن بتاج مرصع بالأحجار الكريمة يضعه فوق رأس النائحين، علامة على النقاء والسلطان. كما تستخدم كلمة «رماد» في الإشارة إلى «صمت الله»، وفي مقابلها كلمة «جمال» تأتي بمعنى «السكون أمام الله».. «الرماد» يُستبدل بتاج؛ و«الجمال» دعوة لنكف عن النواح وندخل إلى «مقادس العلي» لنهدأ أمامه، ونعرف آخرة الأشرار (مزمور ٧٣). النص أغنى جدًا من أن يُشرح بالتفصيل هنا.. لكن ما يعنيه لي اليوم هو: الاضطهاد فرصة لنعرف ما معنى أن نغفر لمضطهدينا، والخوف من القتل يُذكرنا أن آجالنا في يد فادينا. قد لا نستطيع توقع من أين يأتينا الهجوم التالي، إلا أن هذه فرصة لنختبر حضور ملائكته من حولنا! قد تُزعجنا الأسئلة التي تبدأ بكلمة «لماذا»، لكن الكلمة المقدسة تجدد الذهن وتشدد العزيمة.. إذا كنت تشعر أنك تنتمي لأقلية تبدو ضعيفة، ومهددة بطغيان الأغلبية، فارفع رأسك يا كل قبطي في غير خوف أو خجل مدركًا عظمة أن يدعى اسم المسيح عليك.. عِش كملح، ولو كان قليلاً لكن بدونه لا طعم ولا مذاق للحياة في مجتمعنا.. اسلك بين جيرانك وأصدقائك كنور، ولو كان خافتًا أحيانًا، إلا أنه يقشع الظلام وينير حياة الآخرين!

 

والآن ماذا يمكن أن أقول في حب بلادي؟ لست أجد أفضل من كلمات الشاعر أمير طعيمه، والتي تغنت بها المصرية الأصيلة «أنغام»: «بلدي التاريخ لما بيتكلم عليها يقوم يقف وينحنيلها احترام.. بلدي إللي مهما أقول عليها وأحكي ميت سنة، صعـب أوصفها ف كلام! وصى عليها المصطفى بأهلها وبناسها خير، والمسيح عيسى ابن مريم ياما عنها قال كتير.. على أرضها عاش الصحابة والأنبياء وسيدنا إبراهيم.. تجلى فيها ربنا فوق الجبل موسى الكليم. بلدي الزمان مقدرش ياخد من شبابها.. بلدي إللي كل الدنيا دي بتعمل حسابها.. بلد الفنون بلد الأدب، حضن الغريب وقت التعب! بلدي إللي فاتحة للعرب والدنيا بابها.. بلدي إللي لو قامت مفيش قوة تحوشها. بلدي حاميها ربنا ومن بعده جيشها.. جيشها إللي شايل همها، صوتها وروحها ودمها، إدانا حرية وأمل وحياة نعيشها.. بلدي إللي وقت الشدة دايمًا ف النهاية بتنتصر، وإللي محدش جه عليها ف أي يوم إلا وخسر.. بلدي قوية ومستحيل تقع ف يوم أو تنكسر!» عاوز أقول آمين لهذه الأنشودة الجميلة، التي حركت الوجدان بحب مصر إللي هي عشقي وهي بلدي! تحب تقول آمين معايا؟


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٣) 

Copyright © 2013 Focus on the Family Middle East. All rights reserved  .