بقلم: سامي يعقوب

من بين الشخصيات الكتابية المذكورة في العهد القديم، والتي ربما لا يعرفها الكثيرون، الشيخان ألداد وميداد:

عندما ثقل حمل مسؤولية القيادة على موسى قال الرب له أن يجمع سبعين شيخًا من الشعب، ويأتي بهم إلى خيمة الاجتماع، فيأخذ من الروح الذي عليه ويضع عليهم فيساعدونه، فلا يتحمل المسؤولية وحده.. وفي الوقت المعين لهذا اللقاء الإلهي تجمع القادة المختارون حول الخيمة، وعندما تكلم الله مع موسى حل عليهم الروح فبدأوا يتنبأون. لكن اثنين من الرجال بقيا في المخيم ولم يخرجا مع الباقين، إلا أنهما بدءا يتنبئان أيضًا في نفس الوقت الذي تنبأ فيه الآخرون. وبسرعة البرق وصل الخبر إلى موسى: ”ألداد وميداد يتنبئان!“ وفي الحال بادر يشوع باقتراح كيفية التعامل معهما: ”أوقفهما يا سيدي!“ لكن موسى في تواضع وإنكار للذات وبخه على غيرته غير المبررة، وصرح بأحد أشهر أقواله: ”يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء!“ (سفر العدد أصحاح ١١). إذن فالجدل حول حقيقة أن الرب يكلف آخرين أيضًا بمسؤولية خدمة شعبه ممَنْ لا يتبعون عقيدتنا ليس بأمر جديد.. وكذلك الغيرة على عمل الله التي جعلت يشوع يطلب من موسى أن يردع الرجلين ظاهرة موجودة وسط جماعة المؤمنين منذ نشأة الكنيسة التي كانت في البرية!

 المسيح رأس الكنيسة الأعظم تعامل مع هذه القضية أيضًا.. في إنجيل مرقس ٩ نقرأ عن فكره فيما يتعلق بقبول المسيحي للمسيحيين الآخرين، وإن اختلفت ساحة جهادهم. في الطريق تجادل التلاميذ حول مَنْ هو الأعظم بينهم، ولما سألهم المسيح عما كانوا يتناقشون فيه سكتوا، ربما خجلاً.. ففاجأهم بعكس ما كانوا يظنون، وقال: "مَنْ يريد أن يكون أول الناس فليكن آخرهم جميعًا، وخادمًا لهم".. ثم قدم مثالاً حيًا يؤكد أننا في كل مرة نقبل أحدهم باسمه نحن في الواقع نقبله هو شخصيًا (الأعداد ٣٣- ٣٧). لكن يوحنا أجاب على الرب برد فعل تلقائي: "يا معلم رأينا رجلاً يصنع معجزات باسمك وهو ليس يتبعنا فمنعناه، لأنه ليس'يتبعنا'!" وهنا جاءت المفاجأة الثانية بإجابته: ”لا تمنعوه… لأن مَنْ ليس علينا فهو معنا!“ (الأعداد ٣٨ - ٤١). ثم أكمل الرب حديثه في الأعداد التالية محذرًا المؤمنين به عبر العصور من أن يُعثروا الآخرين بسلوكهم.. وحتى نفهم العلاقة بين العثرات وقبولنا للآخرين، لنلاحظ ما ختم الرب به كلامه: ”سالموا بعضكم بعضًا“ (عدد ٥٠).  

 

نحن بطبيعتنا البشرية قد نظن أحيانًا أنه لا شيء صالح يمكن أن يُنجز في العالم خارج دائرة خدمتنا.. وبهذا النوع من التفكير يصبح الاستحقاق والقبول قائمين على العقيدة المجردة بدلاً من محورية شخص وعمل الفادي الذي يجمع مؤمني العالم كله، على اختلاف مذاهبهم في الكنيسة الواحدة، التي هي جسده. أما الروح التي تقول لآخرين دُعي عليهم اسم المسيح: إما أن تتبعونا في كل شيء، أو لا تخدموا المسيح على الإطلاق، فتحتاج لوقفة للمراجعة اليوم أكثر من أي وقت مضى. الحماس المفرط في الدفاع عن العقيدة من السهل أن يتحول إلى تعصب غير مبرر يفقدنا شهادتنا بأننا تلاميذ الرب يسوع وسط مجتمع يراقبنا عن قرب.. فلندافع عن الحق الذي نؤمن به، لكن التحدي هو كيف نفعل هذا بوداعة وخوف.. أي بمحبة واحترام (١ بطرس ٣ : ١٥).

إن تطوير قدرة أبنائنا على التفكير فيما يؤمنون به هو ما يقنعهم بأن يبقوا معنا، ولا يتركونا لأي سبب كان، وليس بالمناداة أن الإيمان القويم لا يوجد إلا مع الأقدم تاريخيًا أو الأكثر عددًا.. ”محبة الله من كل القلب“ التي تحدثت عنها الوصية في سفر التثنية ٥ : ٦ لم تكن تعني محبة المشاعر فقط؛ لأن كلمة القلب في اللغة العبرية تُشير إلى أعماق الإنسان الداخلية التي تنطلق منها إرادته وفكره مع المشاعر أيضًا. ويتضح هذا في اقتباس السيد المسيح للنص عندما قال تُحب الرب من كل فكرك (مرقس 12 : ٣٠).. أي أن تكون محبتنا لإلهنا نابعة عن الاقتناع والفهم العميقين لمن هو الله الذي نعبده (بحسب النص اليوناني)، وليست تلك المحبة التي يُعبر عنها بعصبية المشاعر وإقصاء الآخر.

أنا واحد ممَنْ يؤمنون بأن "إللي مالوش خير في كنيسته، مالوش خير في كنيسة غيره!" إلا أنني في نفس الوقت لا أعتقد أن هذا يُعطي الحق لأي مسيحي أن يقلل من شأن ما يؤمن به مسيحي آخر، بادعاء أن الحق المطلق ملك لجماعة معينة من المؤمنين دون غيرهم. فمن غير المنطقي الظن بأن امتداد ملكوت الله يتحقق عندما ينضم الجميع إلينا، أو إذا توحدت العقائد وأصبحنا كنيسة واحدة، بدلاً من أن نكون كنيسة جامعة تضم كل الذين يتفقون في جوهر ما ينص عليه قانون الإيمان وتعليم الرسل، وإن اختلفنا في أسلوب التطبيق.. الأفضل ألف مرة أن تصل رسالة الخلاص إلى البعيدين الذين لا يرتبطون بالكنيسة إلا في المناسبات، من أن لا تصل إليهم على الإطلاق.

بقي القول بأنه لولا الأرثوذكسية الشرقية لاخترقت البدع الكنيسة، وما حُفظ الإيمان الذي تسلمناه من الآباء الأولين؛ ولولا العمل الإرسالي للكاثوليك لما ذهبت البشارة إلى أقاصي المسكونة، ولبقي الإيمان المسيحي في حدود أورشليم وأنطاكية والأسكندرية؛ ولولا الإصلاح الإنجيلي لما تمتعت الكنيسة باستنارة الفكر اللاهوتي، وتحررت من حرفية تفسير النصوص الكتابية، وجمود التقليد. تُرى هل أراد الله أن يُبدع في رسم صورة لكنيسته على مثال لوحة فنية لرسام قدير أروع ما فيها الجمع بين التنوع والوحدة؟ لا أشك في ذلك.


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١٠ نوفمبر/تشرين ثان ٢٠١٣)

Copyright © 2013 Focus on the Family Middle East. All rights reserved