بقلم: سامي يعقوب

منذ أسبوعين شغلني السؤال: «ما أكثر شيء يُخيفني في هذه الحياة؟» ولم أكن أدري أن الأيام التالية كانت ستحمل المزيد من التوقعات المظلمة لمستقبل الوطن، والتي لابد أنها تُثير بشكل أو آخر نفس التساؤل لدى الكثيرين.

لقد كنت أفكر في الخوف مما يمكن أن يمنعني من أن أتمم المسؤولية التي أعطاها الله لي.. سواء مع عائلتي وفي كنيستي، أو من خلال عملي وانتمائي لوطني. واليوم بينما أراقب تطور الأحداث الأخيرة، والتي لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تأخذ بلادنا، عاد السؤال يتردد داخلي من جديد: «ماذا يمكن أن يحدث لو...؟» وكما علمتني أمي جئت بسؤالي وتوقعاتي لأتقابل مع الله في كلمته: «فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السماوات، يسوع ابن الله، فلنتمسك بالإقرار (بإيماننا)؛ لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا بل مُجرب في كل شيء مثلنا، بلا خطية، فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة، ونجد نعمة عونًا في حينه» (عبرانيين ٤ : ١٤ ـ ١٦).. فوجدت صوتًا داخلي يطمئنني: «إذا حدث وتحقق ما تخاف منه، أو تتوقعه.. "في حينه" سأكون معك فيه!»

في كل يوم أتذكر أن مراحم الله لا تزول؛ فهي «جديدة كل صباح» (مراثي ٣ : ٢٢). لكن هذا لا يجعلني أتجاهل مخاوفنا كأقباط مما قد نواجهه إذا أحكم فصيل سياسي بعينه قبضته على الأمور في مصر، سواء بالحق أو بالباطل.. ومع إدراكي أن المخاوف قد تأخذ أحيانًا حجمًا مبالغًا فيه إذا تركها الواحد منا تتلاعب بمشاعره، إلا أن توبيخ السيد المسيح للفريسيين بسبب عدم قدرتهم على تمييز علامات الأزمنة (متى ١٦ : ١ـ ٤) جعلني أتساءل بواقعية: تُرى هل نحن مقبلون على أيام من الضيق والمعاناة؟ لا مجال هنا للتنبؤ؛ لأن المسيح أراد بتركيزه على أهمية تمييز الأوقات أن يفتح أعين مستمعيه آنذاك ليفهموا أنه المسيّا الذي كانوا ينتظرونه٬ ولم يكن يطلب منهم أن يميزوا علامات مجيئه الثاني. لكنهم لم يفهموا، بل وفشلوا أيضًا في توقع المأساة التي كانت ستحل بمدينتهم التي كانوا يعشقونها «أورشليم». إذن فقراءة الأزمنة لا تعني مجرد التنبؤ بالمستقبل البعيد فقط، بل أيضًا التحليل المنطقي لمعطيات الحاضر لتوقع ما يحدث في المستقبل القريب.

لعل إعلان الأنبا باخوميوس: «كنيسة بلا صلاة هي كنيسة بلا هدف» كان بمثابة قراءة ثاقبة للأزمنة! فالكنيسة التي تُصلي وتجاهد لكي تسلم للجيل المقبل الإيمان الذي أخذته من الآباء لابد أن تواجه ضيقات في سبيلها لتحقيق هذا الهدف. المشكلة أننا بطبيعتنا البشرية الضعيفة كثيرًا ما نحاول أن نتجنب حتى التفكير في إمكانية أن نعاني ضيقات بسبب إيماننا بالمسيح! بل إن البعض يظن خطأ أن اجتيازنا للضيق ما هو إلا نوع من العقاب والتأديب الإلهي! لكن هذا لا يتفق أبدًا مع قول الرسول بولس في رسالة فيلبي ١ : ٢٩: «لقد وُهب لكم (لنا) لأجل المسيح لا أن تؤمنوا (نؤمن) به فقط٬ بل أن تتألموا (نتألم) لأجله». كلمة «وُهب» في اللغة الأصلية جاءت بمعنى «أُعطينا امتيازًا».. فالإيمان بالمسيح نعمة وامتياز لا يعرف روعتهما إلا مَنْ يختبرهما. أما كلمة «فقط» فتشير إلى أن الامتياز الأول «لا يكفي»؛ لأن امتيازًا آخر ينتظر المؤمنين وهو أن نجاهد ونتألم من أجل المسيح.. لقد تمتع الرسول بولس بامتياز معرفة المسيح، واختبر قوة قيامته، ثم نال امتياز شركة آلامه (فيلبي ٣ : ١٠).. وبجهاده هذا وضع مقياسًا لجهادنا نحن أيضًا، فأكمل حديثه: «مجاهدين  الجهاد نفسه الذي رأيتموني أجاهده» (عدد ٣٠- الترجمة العربية المشتركة).

إن طاعة الله في أوقات الرحب والسعة يمكن أن تكون سهلة، وهذا لا يعني أن الله لا يمنح البركة إلا من خلال الضيق.. على العكس، فإن مقاصده وتدابيره لحياتنا ككل٬ وجهاد إيماننا على وجه الخصوص٬ كلها للخير والبركة والسلام. لكن الضيق هو وسيلته ليُعد الكنيسة لتُعلن للعالم مصداقية محبتها وولائها له.. وبالضيق أيضًا يُثمر المؤمنون رائحة حب زكية لا تستطيع كل قوى الكراهية والظلام أن تقاومها، بل إن هذا الحب يجرد الشر من قوته.. فهل بعد هذا نخاف من أن ننال امتياز الضيق؟!

لقد وُجد أن السيوف التي تصنع من صلب خالص تُكسر سريعًا في المعارك، وعلى النقيض فإن السيف الذي يُسبك من حديد غير مخلوط بصُلب يفقد حدة نصله بسرعة، ويصبح غير صالح للاستخدام في الحرب. من أجل ذلك فكر اليابانيون أن يصنعوا سيوفًا تمزج بين خاصتي القوة في المعدنين: الصلب والحديد معًا. وقد برعوا في هذه الصناعة٬ وأنتجوا أفضل أنواع السيوف في العالم!  لم يكن الوصول إلى هذا الإنجاز سهلاً، فقد تطلب الأمر أن تُطرق ألواح من المعدنين تحت درجة حرارة مرتفعة، ثم تطوى عدة مرات على بعضها، ويستمر الطرق مع التسخين بشدة لتتكون رقائق من الحديد الصلب سمكها لا يتعدى ربع مليمتر، ثم تطوى آلاف من هذه الرقائق وتطرق مرة أخيرة ليصنع منها سيوف تجمع بين المرونة فلا تكسر، والصلابة التي تحتاجها شفرة نصل السيف لتحتفظ بحدتها. معدن الصلب في حياتنا ليس سوى الكلمة المقدسة.. أما الحديد فهو الاتكال على الله، والارتباط بشعبه في الكنيسة. وبدون المزيج الفريد بين هذين العنصرين لا يمكن إنتاج أواني تمجد الله بالجهاد من أجل المسيح، والثبات في الضيقات.

ما يفعله اليابانيون ليصنعوا سيفًا قويًا يقاوم الكسر بينما يحتفظ بفاعليته يشبه الكيفية التى يتبعها إلهنا كُلي القدرة ليصقل بالضيقات حياة أبنائه٬ فتكون سيرتهم لائقة ببشارة المسيح.. ثابتين بروح واحد٬ ومجاهدين بقلب واحد من أجل الشهادة عن إيمانهم بالمسيح (قراءة خاصة لكلمات فيلبي ١: ٢٧).

لا أشعر بالبطولة عندما أفكر في إجابة سؤالي، وبينما أكتب هذه الكلمات٬ لعلي أشعر بما يدور في عقل وقلب مَنْ يتابعون ما أكتبه.. فأنا مثلكم أحتاج في هذه الأيام لأن أقف على أرض صلبة في مواجهة طغيان مخاوف اجتياز الضيق من أجل المسيح في الزمن القريب. لكني في كل مرة أشعر بالعجز لا أجد أمامي سوى أن أعود إلى إلهي مرة بعد الأخرى، لأتقابل معه على صفحات الكتاب المقدس.. فهناك يمكننا أن نملأ خزان شجاعتنا من جديد، وفي الكلمة نجد عونًا ورحمة يدعمان إصرارنا بأن نتمسك به حتى نهاية العمر مهما إن كانت التكلفة. وإلى بقية الحديث في المرات القادمة.


 نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٩ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٢

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved