بقلم: سامي يعقوب
كيف يمكن التجاوب مع بكاء طفل لا يستطيع النوم لليالي طالت، وقد أصابه الهلع منذ اضطر لترك بيته بدون مقدمات، بينما كان صوت المدافع يكاد يحطم رؤوس الكبار، ويجمد بالخوف قلبه الصغير؟ وبأي كلمات يمكن أن تعزي أمًا مكلومة نسيت رضيعها في سريره تحت عُجالة الهروب في صباح يوم أسود، ولم تستطع أن ترجع لتأخذه؟! مَنْ الذي يستطيع أن يحتمل دموع رجل تنهمر ساخنة، وهو يشعر أنه بلا حول ولا قوة، وقد ضاع منه رصيد تعب السنين؛ فأصبح عاجزًا عن تسديد احتياجات اليوم، ولا يعرف إلى أين تأخذه الأيام في الغد؟ هل جربت حلاوة أن تأخذ ابنتك في حضنك فتشعر بالطمأنينة والدفء الأبوي.. تخيل للحظة أنها تنزع من بين ذراعيك عنوة لتُباع في سوق الرقيق مقابل حفنة من الدولارات، بعد أن يغتصبها عشرة رجال؟! هل تعرف ما معنى أن تصبح زوجتك من سبايا الحرب، فتعطى لأحد الجهاديين كمتاع ليفعل بها ما يشاء، وإذا حاولت ن تنقذها تُكسر عنقك تحت أرجل وحوش آدمية لا تعرف الرحمة؟

 

ما أقبح الكراهية حين تمتزج بالفكر التكفيري، وما أبشع الإنسان عندما يتفوق في فعل الشر على الشياطين! هذا ما فعلته عصابات داعش بإخوتنا أهل مدينتي الموصل وقراقوش.. الذين سكن أجدادهم، مسيحيون ويزيديون، سهل نينوى من بداية التاريخ. لقد أذهل الداعشون العالم بأفعال بربرية كنا نظن أنه لم يعد لها وجود في مجتمعات اليوم. وأمام تلك الممارسات التى تعود بالإنسان إلى أشد العصور ظلمة في تاريخ البشرية، أفكر مجددًا فيما قاله المهاتما غاندي في وصفه لظلم الإنسان لأخيه الإنسان: "في غمرة يأسي.. أتذكر أنه عبر التاريخ لطالما انتصر الحق والحب. لقد كان هناك طغاة وقتلة بدا لفترة من الزمن وكأن قوتهم لا يمكن أن تهزم، لكن في النهاية كانوا دائمًا يسقطون!"  

 

قضيت أيامًا قليلة بين النازحين في إربيل بالعراق، واللاجئين منهم في الأردن.. في محاولة للتوحد مع آلامهم، واستكشاف بعض الطرق لمساعدتهم على تجاوز الأزمة. وقفت مع ابني وأحد أصدقاء طفولتي للحديث مع بعضهم داخل جراج يفترشون أرضه، يفتقد لأقل متطلبات المعيشة الآدمية، ويطلقون عليه «مقبرة الأحياء».. هناك لم يغب عن ذهني للحظة ما كان يمكن أن يحدث معنا لو لم يتدخل القدير بمعجزة أنقذتنا من مصير مماثل، لو استمر بقاء داعشو الإرهابية على رأس السلطة في مصرنا. ما سمعناه بآذاننا وشاهدته أعيننا أثر بعمق في قلوبنا وأرواحنا، فتغيرت نظرتنا للحياة بـأكملها. ولا أجد من الكلمات ما يمكنني أن أُعبر به عن عمق هذه الخبرة! بالمقارنة ما أتفه مشاكلنا حتى وإن بدت مستعصية لا حل سريع لها، وما أعظم النعمة الإلهية التي غمرتنا، مع أننا لسنا أفضل بأي حال من الضحايا الذين دمر داعش حياتهم! 

 

في حواراتي مع إخوتي من المهجرين المسيحيين لاحظت معرفتهم البسيطة بالكلمة المقدسة، مع اختلاف انتماءاتهم الطائفية، بالرغم من صدق محبتهم لكنائسهم.. ولا يخفى على أحد أن مثل هؤلاء قد ينظر إليهم المتشددون الكنسيون، بحسب تعريفهم للمؤمن، على أنهم أقل استحقاقًا، أو أن عقيدتهم تجعل منهم قبيلة لا كنيسة! لكن العجيب أن هؤلاء المصنفين بأنهم من البعيدين تمسكوا بالمسيح في مواجهة القتل والسحل والتشريد، وبذلك أثبتوا أنهم أقرب للملكوت من «فريسيي وكتبة» هذه الأيام! ما أعجب الإيمان الناتج عن اختبار مع الله غير مؤسس على مقاييس البشر للإقرار بمسيحية من يختلفون معهم في العقيدة! لقد أبهرني الإيمان البسيط، الذي عبر عنه الكثير من النازحين، عندما سمعتهم يطلبون من الله بروح منسحقة أن يسامح جيران العمر الذين على غير توقع خانوهم، واستولوا على بيوتهم وممتلكاتهم ثمنًا لهذه الخيانة! 

 

لم أر من قبل هذا النوع من الإيمان الذى يجعل الضحايا وهم في عمق الأزمة يُصلون من أجل أن يفتح الله أعين مضطهديهم ليعرفوا الحق فيحررهم، مع أنهم قد لا يعرفون نص ما قاله السيد المسيح في الموعظة على الجبل: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم؛ لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات» (متى ٥: ٤٤ و٤٥).. ما أبعد نعمة الله عن قدرتنا على الفهم؛ فسبحانه لديه طرق لا تخطر على بالنا بها يأتي بالبعيدين إلى حظيرة ملكوته! هذا عمل الروح القدس الذي رأيته في شهادة الكثيرين ممَنْ تقابلت معهم، وقد ظننت أنني ذهبت لأشجعهم فإذ بي أقف في ذهول أمام عمل الله العجيب في حياتهم! فابن الإنسان الذي جرب ألا يكون له مكان يسند فيه رأسه، يستطيع وحده أن يعين المطرودين من أجل البر من سكان «مقبرة الأحياء» في حي عنكاوة بإربيل.

أفضل ما أختم به حديثي هذه المرة هو كلمات صلاة القديس يوحنا بولس الثاني، بابا روما الأسبق، من أجل السلام في العالم:  

”إليك أنت، يا خالق الطبيعة والإنسان، يا خالق الحق والجمال، إليك أنت أصلي.. فاسمع صوتي، لأنه صوت ضحايا كل الحروب والشرور بين الأفراد والأمم. اسمع صوتي، لأنه صوت كل الأطفال الذين يعانون وسيعانون عندما يضع البشر ثقتهم في السلاح والقتال. اسمع صوتي، عندما أتضرع إليك أن تغرس في قلوب جميع البشر حكمة السلام، وقوة العدالة، وبهجة الأخوية. اسمع صوتي، لأنني أتحدث باسم الجموع في كل أمة، الذين يعيشون في كل حقبة من التاريخ، الجموع التي لا ترغب في الحرب بل مستعدة لخوض مسيرة السلام. اسمع صوتي، وامنحنا البصيرة والقوة حتى نستطيع دائمًا أن نرد الكراهية بالمحبة، وأن نرد الظلم بالتفاني في العدالة الكاملة، وأن نقدم ذاتنا للمحتاجين، وأن نواجه الحرب بالسلام. يا الله، اسمع صوتي، وامنح العالم سلامك اللا محدود.“ ألعل هذه الصلاة تستحق أن نردد صداها كل يوم في بيوتنا وكنائسنا من أجل ضحايا داعش في سوريا والعراق.. وحتى نلتقي مع حديث المرة القادمة لنتذكر كلمات الكتاب المقدس: «افتح فمك دفاعًا عن المتألمين، وعن حقوق جميع المهملين. افتح فمك واحكم بالعدل، وأنصف المسكين والبائس» (أمثال ٣١: ٨ و٩).. يكفي للشر أن ينتصر أن يصمت أهل الخير ولا يفعلوا شيئًا!


نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١٢ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٤

Copyright © 2014 Focus on the Family Middle East. All rights reserved