بقلم: سامي يعقوب

على غير المعتاد توقفت هذا العام أمام قصة الميلاد من منظور جديد. بينما يملأني شعور فريد بالتعاطف مع الأطفال والعائلات العراقيين الذين اقتلعهم شر داعش عنوة من حيث زرعهم الله، لينجوا بحياتهم، مثل مخلِّصنا، بالهروب إلى حيث يجدون المأوى الآمن ولو إلى حين! 

أدرك هيرودس أن المجوس قد خدعوه، عندما لم يرجعوا ليخبروه عن مكان الملك الجديد.. ولما فشلت خطته بأن يقتل طفلا واحدًا شعر بالخوف الشديد، مع أن هذا الطفل لم يكن يُشكل له أي تهديد! وغلبته نيران الغيرة، وجعلته يفتقد الشعور بالأمان، لدرجة أنه أمر جنوده بأن يذهبوا ويقتلوا بلا رحمة جيلاً كاملاً من الصبيان دون السنتين من العمر في »بيت لحم «، والقرى المجاورة لها.. بحسب ما ورد في الأصحاح الثاني من بشارة القديس متى!  

بعد مرور حوالي ألفي عام على هذه المذبحة الشريرة، يبدو أن الأمر لم يتغير كثيرًا. ففي الصيف الماضي غزا "مجاهدو" داعش منطقة سهل نينوى بالعراق، ووضعوا على بيوت المسيحيين هناك الحرف   "ن  " علامة يميزون بها أن سكانها ينتسبون إلى يسوع الناصري، فيسهل معرفتهم عندما يرجعون لقتلهم، وسبي نسائهم، ونهب ممتلكاتهم.. تمامًا مثلما حدث مع بيوت صبيان   »بيت لحم» لمجرد الظن بأن قتلهم سيعني القضاء على الطفل يسوع! لقد ارتعب هيرودس من أن يأخذ يسوع عرشه، كما شعر داعش على مثاله بالرعب من أن يغير يسوع المسيح بالحب العالم؛ فقتلوا وطردوا الذين دُعي اسمه عليهم.. وربما ظنوا أنهم بهذا يضعون نهاية للمسيحية في الشرق الأوسط، مثلما ظن أهل التشدد الديني في أيام المسيح أن قتله صلبًا هو نهاية القصة، لكن القبر الفارغ -على عكس ما توقعوا- لم يكن سوى نقطة انطلاق لانتشار الإيمان المسيحي في أرجاء المسكونة! 

ربما لا تأخذ قصة هروب السيد المسيح إلى مصر لدى البعض نفس أهمية ما تحكيه البشائر الأربع عما عاناه السيد المسيح في حياته على الأرض. لكن  صدى هذه القصة يتردد اليوم في حياة الملايين من اللاجئين حول العالم، والذين بلغ عددهم، بحسب ما أعلنته الأمم المتحدة، أكثر من ٥٠ مليون شخص، لأول مرة في التاريخ الحديث بعد الحرب العالمية الثانية.. مع ملاحظة أن أغلب هؤلاء قد هربوا من بلادهم بسبب الاضطهاد الديني، وبطش حكام جبابرة لا يعرفون الرحمة! 

ما قاسته العائلة المقدسة من ألم ترك الوطن على غير توقع هربًا من أجل إنقاذ حياة  الطفل يسوع، واختبارهم لألوان من الخوف في طريق الهروب الطويل إلى مصر، وتذوقهم لمعنى عوز الغريب في بلد لا يعرفون لغتها، ولا يوجد بها قريب يستضيفهم حتى يزول الخطر، لا يختلف كثيرًا عما يعايشه أخوتنا اللاجئون العراقيون ضحايا الكراهية، الذين أصبحوا يعانون نفس الآلام التي اختبرها الطفل يسوع، وأمه مريم العذراء، والجندي المجهول: القديس يوسف النجار!

 لقد اختبر الطفل يسوع، مثل الأطفال العراقيين، ألم الفرار من القتل وذبح الأبرياء. لقد رأى الخوف في عيني أمه بينما كان مع عائلته يتسللون في تعجل تحت جُنح الظلام خوفًا من أن يُكتشف أمرهم. لا أعلم كم عدد الأمهات الشابات اللاتي أُجبرن على النزوح مثل مريم العذراء وفي حضنها طفل رضيع. لابد أن الأمر كان مجهدًا ومنهكًا لأقصى درجة بالنسبة لهن، كما كان الحال مع مريم؛ إذ كان عليهن السير على الأقدام من الموصل إلى كردستان، أو أن يُكَدسنّ في سيارة على طول الطريق جنوبًا إلى الأردن. أي خوف انتابهن لمجرد التفكير في احتمالية أن  يلحق بهن رجال هيرودس- أقصد داعش-  ويقتلوا أطفالهن؟! أتخيَّل نفسي كأب في مكان يوسف النجار، وأستطيع أن أراه مهمومًا يفكّر في كيفية توفير الأمن والقوت لعائلته الصغيرة، وقد فوجىء بضرورة أن يهرب معهم إلى مصر بدون سابق إنذار، مثل كل رب أسرة كان يعيش في سهل نينوى اضطر أن يأخذ عائلته بدون استعداد، ويهرب إلى المنفى.

في هذا العيد أتوحد مع إخوتي النازحين واللاجئين، المطرودين من أجل مسيحيتهم، وقد حمانا القدير من أن نشرب من نفس الكأس التي يتجرعونها اليوم.. مقابلتي مع بعضهم في أربيل وعمان ذكّرتني مجددًا أنني أنا أيضًا لاجىء روحيًا، ومتغرب في هذا العالم.. عندما رأيتهم يتطلعون ليوم العودة إلى موطنهم، تجدد اشتياقي ليوم العودة إلى موطني الأبدي. أما وقد أتيحت لك ولي فرصة أن ندخل عامًا جديدًا، "لنتقدم كل يوم بثقة إلى عرش واهب النعمة، لننال رحمة ونجد نعمة تعيننا" أن نكمل باقي أيام العمر في مرضاته. وبينما نحتفل بعد أيام بعيد الميلاد المجيد، دعونا نصلي معًا لأجل عائلات أخوتنا اللاجئين، عراقيين كانوا أو سوريين، يزيديين أو مسيحيين، ليجدوا تعزية ورجاءً في قصة الرب يسوع، الذي أخلى نفسه، وترك مجده، ورضي أن يكون لاجئًا في الأرض بتجسده.. وإذ "تجرّب مثلنا في كل شيء ما عدا الخطية، فهو وحده القادر أن يرثي لنا ويشفق على ضعفنا" ، ويحيي الرجاء في قلوبهم  ليوم عودتهم إلى بلادهم التي طُرودوا منها، ونحن وهم ليوم عودتنا معًا إلى الموطن السماوي الذي لا يستطيع أحد أن يطردنا منه..

وكل عام وأنتم بخير.


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ 4 يناير/ كانون الثاني 2015)

Copyright © 2015 Focus on the Family Middle East. All rights reserved