Submit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

بقلم: سامي يعقوب

للمزيد من هذه السلسلة:

عندما يختار الأبناء ١           عندما يختار الأبناء ٢

عندما يختار الأبناء ٣           عندما يختار الأبناء ٤


مَنْ منا لا يفرح بينما يرى أبناءه يكبرون ويتقدمون في حياتهم، وينضجون ليصبحوا شخصيات مستقلة..لكن هذا بالطبع يعني أن سلطاننا عليهم يقل، وتتغير طبيعة المسؤولية الأبوية عن سلوكهم واختياراتهم. في الواقع إن عبور الأبناء من مرحلة حياة الطلبة، وخروجهم للعمل يمثلان علامة فارقة في علاقتنا معهم.. فنرى أن رغبتهم في الاستقلال عن الأسرة، على الأقل ماديًا، تزداد بشكل كبير

 

وفجأة تدخل بعض الموضوعات التي كان يحلو لهم الحديث عنها معنا تحت بند سري جدًا. على سبيل المثال: متى سيختارون شريك الحياة، وما مواصفاته؛ فهذه منطقة لا يجوز الاقتراب منها.. هل سيكملون دراستهم للحصول على درجة علمية أعلى أم لا؛ فهذا موضوع شخصي للغاية.. وفي نفس السياق فأية حوارات حول اختيارات المستقبل قد تعني بالنسبة لهم تدخلاً غير مبرر من الوالدين!

 

على أية حال، أعتقد أن كل مظاهر الاستقلالية التي تدخل إلى حياتنا بدون سابق إنذار لا تعني أبدًا أن الأبناء ليسوا بحاجة للدعم الذي يمكن أن يقدمه الوالدان في هذه المرحلة.. أو أنهم لا يستطيعون الاستفادة من نصيحة أب مُحب اعترك الحياة، وأم مع بساطتها يتوفر لديها فيض من خبرات اكتسبتها مع التجارب والتحديات التي واجهتها مع الأيام. وفي نفس الوقت فإن نفور أغلب الأبناء عن الاستماع لوالديهم يكون عادة مرحليًا، وناتجًا عن تغيّر في آلية تطبيق السلطان الأبوي.. فالعلاقة قد آن لها أن تأخذ طبيعة الصداقة بدلا من ديناميكية تعامل الكبير الفاهم مع الصغير الأقل في الخبرة.. ولازلت أذكر ما كانت عمتي تردده مرات: "إن كبر ابنك خاويه"، أو عامله كأخ!

 

عن ظاهرة انفصال الأبناء عن الوالدين في هذه المرحلة الانتقالية من حياتهم، كتب الدكتور جيمس دوبسونالسيكولوجي المعروف بخبرته في تربية الأبناءما يمكن أن يشجعنا ويطمئنا.. ففي رأيه أن هذا الانفصال مؤقت، ولابد أن يعود بعده أبناؤنا، الذين قضينا عمرنا كله مشغولين بتنشئتهم، إلى دفء العلاقة معنا ومع إخوتهم أيضًا. ويشبّه دكتور دوبسون ما يحدث في هذه المرحلة بالمحاولات المبكرة لغزو الفضاء، وكيف كانت تحيطها المخاطر، خاصة عند اختراق مركبة الفضاء للغلاف الجوي للأرض من وإلى الفضاء الخارجي، حيث يولد الاحتكاك درجة حرارة تصل إلى ٤٥٠ درجة مئوية، وإذا حدث خطأ بسيط في زاوية الاختراق سيتحول الرواد إلى رماد في الحال.. وفي نفس الوقت فإن الاتصال بالمركبة ينقطع طوال فترة عبورها للغلاف الجوي، لمدة تصل إلى سبع دقائق تقريبًا، يشعر خلالها المسؤولون عن متابعة المهمة بوكالة الفضاء أنها سبع سنوات.. وبينما ينتظر الجميع بلهفة أن يعود الاتصال مع الرواد يكسر صمت قاعة المتابعة صوت قائد المركبة يقول: "لقد عبرنا، وكل الأمور على ما يرام!" هذا ما يحدث مع أبنائنا عندما تأخذهم مركبة الاستقلالية بعيدًا عنا فينقطع الاتصال معهم ربما لفترة أطول من سبع دقائق.. لكنهم بالتأكيد سيعاودون الاتصال، وستهبط مركبة حياتهم مرة أخرى على سطح العلاقة مع والديهم، وعندئذ ينتقل الآباء مع الأبناء إلى مرحلة جديدة ورائعة من الحياة والتفاهم المتبادل.

 

والآن.. كيف يمكننا التعامل مع الأبناء خلال فترة الصمت أو الانفصال المؤقت هذه؟ مثل أي أب يراودني هذا السؤال مرارًا، ولأني لا أريد أن أخسر ابنيَّ، أو أزعجهما على أقل تقدير، فإنني أحاول جاهدًا أن أدرب نفسي على تقديم نصائحي لهما كأصدقاء، وبطريقة تساعدهما على رؤية وجهة النظر الأخرى لما يفكران فيه؛ فهذا يعطيهما الفرصة أن يوازنا بين نصيحتي وتقديرهما الشخصي لواقع ما يعايشانه قبل أن يقررا ما يختاران.

 

عندما نقبل كآباء وأمهات حقيقة أن طبيعة دورنا ومسؤوليتنا قد تغيرت بنضوج أبنائنا، لابد أن نتوقف ونفكر قبل أن يصدر منا أي رد فعل بشكل تلقائي تجاه ما يختارونه لحياتهم.. فنرفض الحوار، أو نُلقي على مسامعهم محاضرة بما نراه الأفضل من وجهة نظرنا. ولعل أحد أكثر العوامل التي تُبقي على قنوات التواصل مفتوحة معهم هو أن نستمع جيدًا لما يقولونه؛ فبلاشك هم لديهم تفاصيل عن ظروف وأسباب اختياراتهم تخفى علينا. لذلك فالإصغاء لهم يؤكد استمرار محبتنا، واحترامنا لما أصبحوا عليه الآن من شخصيات، ويعفينا من سلبية ونتائج إصدار الأحكام المسبقة.

 

أيضًا لنلاحظ أن نبرة كلماتنا الأولى في أي نقاش مع الأبناء ستحدد مسار ودرجة حرارة بقية الحوار.. وما يساعد الكبار على تجنب حدة الحوار، أو البدء بقذائف الاتهام هو قناعتنا الداخلية بأن حوارنا نابع عن اهتمامنا بمستقبل أبنائنا، وليس لإثبات خطأ تفكيرهم أو سوء اختيارهم.. فقد تكسب المناقشة، لكنك تخسر الشخص، وهذا أسوأ انتصار في أحد أقدس معارك الحياة!

الأبناء لا يحبون أن ينتهي الحوار بالتحذير من العواقب، أو التهديد برد فعل، لكن ما يشجعهم على التفكير في رأيك والرجوع للحوار معك مرة ثانية هو شعورهم أن القرار الأخير للاختيار متروك لهم. وربما من الأفضل أن ينتهي الحوار بأن يسمعوا منا: "لو كنت مكانك فهذا ما سأختاره، لكن في النهاية أنت الذي تستطيع أن تقرر الأفضل لمستقبلك!" كم من مرة طلبت فيها من شريك أو زميل عمل، جار أو صديق، أن يأخذ وقته ليفكر فيما قد تختلفان عليه.. فهل تبخل على ابنك أو ابنتك بمثل هذا العرض الكريم عندما تتعارض وجهات نظركما، خاصة إذا كان لاختياره تأثير بعيد المدى؟

 

لقد أكد الرسول بولس على أهمية التوازن في الحوار مع الأبناء بين وجوب طاعتهم، وضرورة ألا نُثير غضبهم أو نستخف بهم (أفسس ٦: ١ و٢). لكن كلمات النبي حزقيال تُوقظ في داخلي إحساسًا خاصًا بالخوف يجعلني أشجع كل أب وأم ألا يتخليا عن مسؤوليتهما: "النفس التي تُخطئ هي تموت. الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن. بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون" (حزقيال ١٨: ٢٠).. ألا تتفقون معي أنه أيًا كان مقدار ذكاء وقوة شخصية أبنائنا، ومهما حققوا من إنجاز علمي أو مهني.. فإن الأسرة هي ملاذهم الأخير؟ وإلى بقية الحديث في المرات القادمة.


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١٩ أغسطس/ آب ٢٠١٢)

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved

 

 

 

 

 

 

 

 التربية المقدسة بالطول