Submit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

بقلم: سامي يعقوب

امتلأت أيامي خلال هذا الأسبوع بالأفكار والخواطر الشخصية التي أريد أن أشاركها معكم هذه المرة، مقاطعًا مشاركاتي عن هموم الوطن والمستقبل.

لقد اعتدت في مثل هذا الوقت من السنة عندما أستقبل عامًا جديدًا في حياتي أن أتوقف لأفكر في «الأمس» الطويل الذي امتد بي لأكثر من خمسين عامًا بعدة سنين.. ما أسرع مرور أيام العمر! ولابد أن أعترف أن التفكير في «الأمس» بقدر ما يمكن أن يملأ الواحد منا بالشجاعة والإصرار على مواصلة المشوار، إلا أنه يحمل في طياته مخاطرة الوقوع في فخ الشعور باليأس والإحباط٬فنشبه في ذلك الذي يسير في طريق تأخذه فيه قدماه إلى الأمام بينما يستدير برأسه ناظرًا إلى الخلف، فيعرّض نفسه للوقوع في أي حفرة يصادفها.. وما أكثرالحفر في شوارعنا!

 

«الأمس» بكل ما يملأ جعبته من أحداث صنعتني لأكون ما عليه الآن: أبي وأمي وإخوتي، زوجتي وأولادي، الإيمان الذي سكن حياتي مبكرًا، الخبرات التي اكتسبتها، والدروس التي تعلمتها، صداقاتي وعلاقاتي.. التاريخ الذي تحمله أيام عمري تَراكم ليكوّن نبعًا لا ينضُب من ذكريات أستمد منها شجاعتي لأعيش اليوم، وأواجه تحديات الغد.

لكني مثل باقي البشر، من الطبيعي أن «الأمس» في حياتي لم يكن كله سهلاً ومريحًا، فقد عانيت من لسعات النحل في كل مرة جنيت فيها عسلاً.. فصارعت في عنادي مع أخطاء ارتكبتها، وجُرحت في معارك دخلتها بإرادتي أو مرغمًا. لقد فقدت بلا موت أحباء، وبالغربة أصدقاء.. أشياء تمنيتها لم أحصل عليها، وكلمات قلتها يا ليتها ما خرجت من فمي.. دفعت ثمنًا باهظًا لاختيارات لم تكن تستحق! لكني في النهاية تعلمت أن الله لا يريد أن يلازمني هذا الجزء من «الأمس» لبقية أيام عمري.. ما أفكر فيه  اليوم هو أن أشجع كل مُقيد بأحداث «الأمس» البعيد أو القريب أن ينفض عن قدميه غبار الفشل ومتاعب الماضي، ويخطو للأمام بروح الشكر والثقة في مواعيد الله..  «أوفي ذبائح شكر لك، لأنك نجيت نفسي من الموت. نعم، ورجليَّ من الزلق، لكي أسير قدام الله في نور الأحياء.» (مزمور ٥٦  : ١٢و١٣). في العلاقة مع الله هناك دائمًا أيام أعظم وأروع آتية في العمر طال أو قصر.

 

«الأمس» مضى، ولم أستطع أن أتحكم فيه أكثر مما أتيح لي، والآن لا أستطيع أن أغير منه شيئًا.. لكني أستطيع فقط أن أعيش اليوم بطوله وعرضه قبل أن يصبح "أمسًا"، وأن أنتظر الغد بأمل ورجاء يتجددان مع فجر كل يوم جديد.. يقدم لنا الرسول بولس  من اختبار حياته أحد أسرار النجاح فيقول: «لكني أفعل (أو ما يهمني) شيئًا واحدًا: إذ أنسى ما هو وراء و أمتد إلى ما هو قدام ...» (فيلبي ٣ : ١٣). ولعل فعالية هذا السر تنبع من قدرة الواحد منا على أن «يمتد إلى ما هو قدام» .. أو أن "يجتهد إلى الأمام".. ترى كيف؟

أعتقد أن التحدي الذي يواجهنا عندما ننظر إلى «الأمس» هو عدم قدرتنا على انتقاء ما يمكن أن نحتفظ به في خزانة ذكرياتنا، وما يجب أن نتركه يهوي إلى قاع النسيان. فأغلبنا لديه القدرة على تذكر أدق تفاصيل أحداث ومواقف لابد أن ينساها، وينسى ما يجب أن يتذكره! فكيف يمكننا أن نتمسك بما يساعدنا أن ننطلق للأمام، ونتخلى عن كل ما يُعمق جروحنا، ويجدد آلامنا؟ كيف لنا أن نتحرر من كل ما يُكبلنا ويجعلنا عاجزين عن الاستمتاع بحلاوة عطية اليوم؟ وكيف نتدرب على التطلع ببهجة وشغف لأن نُعطى حياة من جديد في الغد؟

 

أعود مرارًا  للقاء مع يوسف الصديق، فهو أستاذ كرسي، ورئيس قسم التعامل مع «الأمس» في جامعة الحياة.. فما عاناه يوسف بسبب غيرة وخيانة إخوته، والظلم الذي قاده إلى السجن كان كفيلاً بأن يغرقه في مرارة «الأمس» ورثاء الذات. لكن قدرته على التعامل مع الماضي الذي يصعب على أي بشر أن يجد له تفسيرًا تدهشني! لقد استطاع يوسف أن يعبّر في إيجاز وعمق عن اختباره بعد أن عايش حاضرًا جديدًا في مصر.. فعندما وُلد له ابنان أعطاهما اسمين لكل منهما معنى: فقد دعا الابن الأكبر «منسى» قائلاً: «لأن الله أنساني كل تعبي وكل بيت أبي». ولما وُلد له ابن آخر أسماه «أفرايم»، قائلاً: «الله جعلني مثمرًا في أرض مذلتي» (تكوين ٤١ : ٥١ و٥٢).

وجدير بالذكر أن زوجة يوسف المصرية «أسنات بنت فوطي فارع كاهن أون» كانت بلسانًا له، فقد أحاطته بحب فاض على مرارة وخيانة «الأمس»٬فنسياهما.. ووقفت بجواره، ودعمته٬ووفرت له كل ما أعطاه الفرصة أن يكون مثمرًا، مع أنه كان غريبًا في مصر. وعندما تصالح مع ماضيه استطاع أن يواجه الغد بحكمة وثقة٬واستخدمه الله ليحيي شعبًا كثيرًا، وهكذا تحول شر «الأمس» إلى خير اليوم ومغفرة الغد. بالمناسبة، يالسعادة كل بيت يجمع بين جدرانه أسرة تدبر شؤونه «أسنات بنت فوطي فارع»!

 

إذا كان «الأمس» جاثمًا على صدرك، ومُقيدًا لحريتك٬فاستمع إلى نصيحة كاتب الرسالة إلى العبرانيين في بداية الأصحاح الثاني عشر: اطرح عنك كل ثقل الماضي، وخفف حملك بالاعتراف بكل خطية عالقة بك في الحاضر، وابدأ بالجري بعزم إلى الأمام في ميدان الجهاد الممتد أمامك، مثبتًا عينيك على رئيس إيماننا ومكمله يسوع.. فيسوع المسيح قد سار من قبلك وقبلي في طريق الجهاد هذا، وأكمله.. وها هو الآن ينتظرك وينتظرني عند خط النهاية. فلنتمسك به إذن ليس من أجل نسيان الماضي فقط، بل لتكون لنا رؤية أوضح لمستقبل مثمر.. فهو وحده الذي يستطيع أن يحررنا من قيود «الأمس» فننطلق بشجاعة الإيمان إلى الأمام في الغد، وكل غد حتى نهاية العمر.


 

(نُشر بجريدة وطني بتاريخ٨ يوليو/ تموز ٢٠١٢)

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved  .