بقلم: فيليب يانسي
هل تعرف كيف تبث الطمأنينة في نفوس أطفالك عندما يتشككون في صلاح الله بسبب الأمور السيئة التي تحدث في العالم من حولهم؟
مع اقتراب عام ٢٠١٢ من نهايته، قبلتُ مهمة قد تكون الأصعب على الإطلاق -ليست من جهة حجم المعاناة- وهل يمكن قياس حجمها؟ لكن في أشد لحظات الفزع والحزن العميق. في العطلة الأسبوعية التالية للكريسماس كنت أخاطب المجتمع في مدينة نيوتاون في ولاية كونيكتيكت، وهي مدينة كانت لاتزال تترنح في أعقاب عملية ذبح مروع لعشرين من طلبة الصف الأول، وستة من معلمين وأفراد من إدارة المدرسة.
في هذه العطلة الأسبوعية سمعت حكايات من شهود عيان عن المأساة من العائلات المنكوبة، وأيضًا من المشيرين النفسيين، وأول مَنْ تعاملوا مع الحادث ومن فريق العاملين في مدرسة ساندي هوك الابتدائية. لم استشعر رغبة في الانتقام بين الأشخاص الذين تحدثت معهم، وإنما استشعرت بينهم الحيرة والارتباك والحزن العميق. لم يكن لدى أحد أية إجابة لأسئلة كثيرة تبدأ بعبارة ”لماذا نحن بالذات؟“
كان الأطفال الناجون يتأقلمون بطرق مختلفة؛ فبينما كان البعض لديهم غضب وسخط شديد، كان آخرون يظهرون أعراض نوبات من الذعر والقلق، والخوف من الرجوع إلى المدرسة.
ما حدث بمدرسة ساندي هوك كان أسوأ كابوس يمكن أن يتعرض له أي أب وأم. لن يمر معظم الأطفال -بإذن الله- بتجربة مأساوية من هذا النوع. لكن الجميع يختبرون الألم بدرجات وطرق متفاوتة.
خلال عشرين عامًا في مهنة الكتابة، تحدثتُ مع أشخاص كثيرين كانوا يمرون بتجارب مؤلمة. كلهم بلا استثناء كانوا يمرون بشكوك عميقة ومُلحة تتعلق بالله بسببب معاناتهم.
الألم يستدعي معتقداتنا الأساسية عن الله إلى منطقة التساؤل والشك. وبالإصغاء إلى هؤلاء المتألمين، كنت أسمع أربعة أسئلة أساسية يُعبَّر عنها بصياغات مختلفة:
- هل الله يتمتع بالكفاءة؟
- هل الله كلي القوة؟
- هل الله عادل؟
- لماذا يبدو الله لا يبالي بالألم؟
عندما يلمس الألم حياة أطفالنا، ربما يسألون أحد أو بعض هذه الأسئلة. لكن مساعدتهم على البحث عن إجابات عميقة يمكن أن تعمق ثقتهم في الله الذي يفوق أفهامنا.
هل الله يتمتع بالكفاءة؟
أعترف أنني كنت أنظر للألم في فترة ما على أنه أحد هفوات الله الكبرى في عالم كان سيبدو مذهلاً لولا هذه الهفوة. لماذا يتم إفساد مثل هذه العالم بإدخال الألم فيه؟
كانت شكوكي حول كفاءة الله تهتز بقوة بشكل غير عادي. لكنني أنذهلت عندما تعلَّمتُ أن عالمًا بدون ألم يوجد بالفعل داخل أسوار مستشفى الجذام. عندما مشيتُ في أروقة مستعمرة الجذام في لويزيانا، وتعرفتُ على ضحايا هذا المرض، تلاشت شكوكي حول قيمة الألم. المصابون بالجذام لا يشعرون بالألم الجسدي -وهذا في حد ذاته المأساة الحقيقية لمرضهم. عندما ينتشر هذا المرض فإن نهايات الأعصاب التي تحمل إشارات الألم تفقد وظيفتها.
تقابلتُ مع مريض بالجذام فقد كل أطراف أصابع القدم اليمنى، ببساطة لأنه أصر على ارتداء حذاء ضيق. وعلمت عن مريض آخر فقد إبهامه تقريبًا بسبب قرحة ظهرت لديه عندما أمسك بيد ممسحة بقبضة قوية.
تعلمت أنه بألف طريقة، وبتفاصيل كبيرة وصغيرة، نحتاج للألم كل يوم. إذا كنا أصحاء، فإن خلايا الألم تنبهنا متى نحتاج أن نغيّر الحذاء، ومتى نخفف قبضتنا على يد الممسحة. خرجت بقناعة راسخة بأن الألم جزء ضروري لا يتجزأ من الحياة الطبيعية على هذا الكوكب. الألم ليس ابتكارًا من صنع الله في اللحظة الأخيرة من الخلق ليجعلنا كائنات فانية متواضعة. كذلك لم يكن أحد الهفوات الكبرى لله.
هل الله كلي القوة؟
بالطبع يمثل الألم الجسدي الطبقة العليا فقط مما نسميه بالمعاناة. فالموت والمرض والزلازل والفيضانات كلها تستدعي أسئلة صعبة عن عناية الله بكوكب الأرض. هل يملك الله ما يكفي من القوة ليعيد ترتيب الكون بحيث يخفف من معاناتنا؟
يحكي سفر أيوب، من أسفار العهد القديم، عن رجل كان يعاني من الألم الشديد الذي لا يستحقه. لكن الله في حديثه مع أيوب (الأصحاحات ٣٨- ٤١)، كان لديه فرصة رائعة ليناقش مسألة هل يفتقر الله للقوة، إن كان هذا هو أصل المشكلة. لكن الله أكّد على كلٍّ من حكمته وقوته.
أجزاء أخرى من الكتاب المقدس تقنعني بأنه ربما يجدر بنا أن ننظر لإشكالية الألم كمسألة تتعلق بالتوقيت وليس بالقوة. لدينا إشارات كثيرة عن أن الله، مثلنا، غير راضٍ بحالة هذا العالم، أي لكونه خليقة أفسدها مقاوم شرير. الله يشعر بالأسى والغضب بسبب العنف والحرب والكراهية والمعاناة. وهناك خطة إلهية للتعامل مع هذا ستُنفذ في يوم ما. خلال كتابات الأنبياء، وتعاليم السيد المسيح، وكل أسفار العهد الجديد، نجد فكرة أساسية متواصلة عن الرجاء، الرجاء في يوم عظيم. يوم فيه ستحل السماء الجديدة والأرض الجديدة محل السماء والأرض القديمتين. يقول الرسول بولس «إِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا» (رومية ٨: ١٨).
نحن مدعوون، مثل أيوب، لنثق في الله حتى وإن بدت الظواهر كلها تُضعف من هذه الثقة. الله يخطط لعالم أفضل بكثير في يوم من الأيام، عالم بلا ألم أو شر أو دموع أو موت، ويطلب منّا أن نؤمن بوعد هذه الخليقة الجديدة.
هل الله عادل؟
”لماذا أنا؟“ هذا ما نسأله بشكل فطري وطبيعي عند مواجهتنا لمأساة كبرى. في الواقع، إذا كان الله كلي الكفاءة، وكلي القوة، ألا يتضمن ذلك أن الله يتحكم في كل تفاصيل الحياة؟
قليلون منّا يمكنهم تجنُّب هذه الأفكار حين تحل المعاناة. نحن على الفور نبدأ في فحص ضميرنا للبحث عن خطية ما لابد أن الله يعاقبنا عليها: ماذا يريد الله أن يخبرني من خلال هذا الألم؟ وإذا لم نجد شيئًا محددًا، نبدأ في التشكك في عدالة الله.
مرة أخرى، المكان الأوحد الموثوق به لاختبار شكوكنا عن الله هو الكتاب المقدس. ماذا نجد فيه: هل الله معتاد أن يستخدم الألم كعقوبة؟ نعم، هذه حقيقة. يسجّل الكتاب المقدس أمثلة كثيرة، خاصة العقوبات الموجهة إلى شعب بني إسرائيل في العهد القديم. لكن في كل الحالات، يتبع العقوبة تحذيرات متكررة ضد السلوك الذي يستحق العقاب.
هل هذا النمط يشبه ما يحدث لمعظمنا اليوم؟ وإذا لم يكن يتشابه، حينئذٍ علي أن أسأل هل الآلام التي يختبرها معظمنا هي عقوبات من الله أم لا. بكل صراحة، أؤمن أنه إذا لم يعلن الله عكس ذلك بطريقة خاصة، فمن الأفضل أن نتطلع إلى أمثلة كتابية أخرى لأشخاص متألمين. مرة أخرى، يقدّم أيوب أفضل مثال.
أصر أصدقاء أيوب على أن أيوب هو أصل المشكلة، وليس الله. في المقابل أصر الله أن أيوب لم يفعل شيئًا يستحق معاناته، وأنها لم تكن عقوبة على خطاياه.
في موضوعين مختلفين من العهد الجديد أكّد يسوع الفكرة ذاتها. في أحدهما، أشار تلاميذه إلى رجل أعمى، وسألوه مَن أخطأ حتى صارت هذه المعاناة: الرجل الأعمى أم أبواه. فأجاب يسوع بأنه لا أحد أخطأ (يوحنا ٩: ١-٣). في مرة أخرى، علّق يسوع على حدثين معاصرين له: سقوط برج أودى إلى مقتل ١٨ شخصًا، ومذبحة حكومية لبعض المتعبدين في الهيكل. قال يسوع إن هؤلاء الأشخاص لم يكونوا أكثر ذنبًا من أي شخص آخر (لوقا ١٣:١-٥). وهم أيضًا لم يرتكبوا شيئًا يستحقون عليه هذه المعاناة.
هل الله يعتني؟
لكن الشيء الأكبر الآخر الذي يثيره الألم هو شكل مختلف وغامض من الشك. هناك أسئلة أخرى ذات طابع فلسفي وتجريدي أكثر. هذا الشك له طابع شخصي: ”لماذا لا يُظهر الله اهتمامًا أكبر بي في وقت الاحتياج؟“. هناك تعبيران لاهتمام الله ينطبقان علينا جميعًا في كل مكان. أحدهما هو استجابة يسوع للألم. والآخر يضم كل مَن دُعي عليهم اسم المسيح.
في المسيح نجد حقيقة تاريخية لكيفية تجاوب الله مع الألم على الأرض. قضى يسوع معظم حياته بين المتألمين، واستجابته معهم تُظهر لنا أيضًا كيف يشعر الله تجاه الألم. لقد تجاوب مع المجروحين بالحزن والأسى. وعندما مات صديقه، بكى يسوع. ثم تقدم بقوة فائقة للطبيعة وشفى المتألمين.
ومع ذلك لم يبقَ يسوع على الأرض. فماذا عنّا؟ كيف نستشعر محبة الله؟ بالطبع لدينا الروح القدس -وحضور الله بداخلنا. ولدينا الوعد الآتي، حين يقوّم الله العالم المعوج، ونتقابل معه وجهًا لوجه. لكن ماذا عن الآن؟
هنا يأتي دور الكنيسة، المجتمع الذي يتضمن كل مَنْ يتبع الله بحق. يستخدم الكتاب المقدس تعبير «جسد المسيح» الذي يعبّر عن هُويتنا الجديدة على الأرض. نحن مدعوون لنمثل المسيح، خاصة بالنسبة للمتوجعين.
هناك طريقة واحدة فقط يمكننا من خلالها فهم كيف يمكن لجسد المسيح أن يخدم المتألمين، ولنرى ذلك فعليًا. كانت مرثا امرأة فاتنة الجمال وتبلغ من العمر ٢٦ عامًا عندما تقابلت معها لأول مرة. لقد تغيّرت حياتها إلى الأبد عندما علمت أنها أصيبت بمرض التصلب الجانبي الضموري (ALS).
بدأتُ في زيارة مرثا في المستشفى التي عملت على إعادة تأهيلها. وتحدثنا عن الموت، وبإيجاز عن الإيمان المسيحي. بالطبع كانت مرثا تفكّر في الله، لكنها لم تستطيع التفكير في محبة الله.
سرعان ما اتضح أن مرض التصلب الجانبي الضموري سيكمل دورته المروعة سريعًا في جسد مرثا. كانت في أمس الحاجة إلى أسبوعين خارج المستشفى، في شقتها بولاية شيكاغو، حتى تستطيع أن تدعو الأصدقاء، فردًا فردًا، لتودعه، ولتصل إلى درجة من القبول والقناعة بأمر موتها. لكن وجودها في شقتها لمدة أسبوعين فرض مشكلة أخرى وهي احتياجها للمساعدة على مدار الساعة.
خدمة واحدة فقط في منطقة شيكاغو قدمت رعاية مجانية وحانية كانت مرثا في احتياج إليها: وهي جمعية Reba Place في إيـﭬانستون. هذه الخدمة المسيحية تطوعت بكل شيء لازم بحيث تحقق مرثا أمنياتها الأخيرة.
في النهاية عندما شاهدت مرثا محبة الله متجسدة في الأشخاص المحيطين بها، رجعت إلى الله في المسيح، وقدمت نفسها في ثقة للوحيد الذي مات من أجلها. وقوبلت أسئلتها غير المجابة عن ألمها بمحبة فعلية حقيقية، وبدأت تتلاشى شكوكها عن الله تدريجيًا.
إجابة أسئلتنا
سؤال أخير جائني من الجمهور في الليلة الأخيرة لي في مدينة نيوتاون، وكان آخر سؤال أود أن أسمعه: ”هل سيحمي الله أبنائي؟“
بقيت صامتًا لوقت بدا أنه بضعة دقائق. أكثر شيء كنتُ أريده هو أن أجيب بمرجعية قوية: ”نعم! بالطبع الله سيحميك. دعني اقرأ لك بعض الوعود من الكتاب المقدس“، ومع ذلك علمت أن ورائي على نفس المنصة، ٢٦ شمعة قد أُضيئت لتذكار الضحايا، مما يبرهن أنه ليس لدينا حصانة ضد تداعيات هذا الكوكب الساقط.
أخيرًا قلت: ”لا، أنا آسف، لا أستطيع أن أعد بهذا“. الله يقدّم دعمًا وتضامنًا، ولكنه لا يقدم حماية -على الأقل ليس نوعية الحماية التي نرجوها باستماتة. لماذا؟ ليس لدينا إجابة أكثر وضوحًا مما حصل عليها أيوب. ليس لدينا سوى رجاء لا يلين -ويختلف كثيرًا عن التفائل الساذج- بأن قصة يسوع، التي تتضمن ليس موتًا فقط بل قيامة، تمنحنا إشارة براقة لما سيفعله الله من أجل الكوكب كله. التفائل المفرط يعد بأن الأمور ستتحسن تدريجيًا، أما الرجاء المسيحي فيعد بأن الخليقة سيُعاد تشكيلها. وحتى يحدث هذا، من الواضح أن الله يُفضِّل ألا يتدخل في كل مرة يحدث فيها شر أو كارثة طبيعية، مهما كانت فاجعة. في المقابل كلفنا الله بأن نكون وكلاء عنه للتدخل وتقديم المساندة في خضم عالم ساقط ومعادٍ.
© 2020 Focus on the Family. All rights reserved. Used with permission. Published in English at focusonthefamily.com.