بقلم: سامي يعقوب
للمزيد من هذه السلسلة:
الدرجة أم الشخصية ١ الدرجة أم الشخصية ٢ الدرجة أم الشخصية ٣
الدرجة أم الشخصية ٤ الدرجة أم الشخصية ٥ الدرجة أم الشخصية ٦
موضوع شائك آخر أريد أن أثيره راجيًا أن يحرك الكثيرين فيتحررون من أفكار بالية فرضتها علينا الظروف الاجتماعية والسياسية في الحقبة الماضية،
وبالتالي يحررون أبناءهم من عبودية الدرجة النهائية، وكابوس التعليم الذي قد يفقدهم متعة الطفولة وحيوية الشباب، دون أن يضمن لهم المستقبل الذي نرسمه نحن لهم في مخيلتنا، متجاهلين ما أثبتته الأيام أن النجاح في الحياة لا علاقة له في الواقع بالدرجة بعد كل امتحان.
في الستينيات من القرن الماضي ملأت مسامعنا عبارة: ”البدلة الشعبية أفضل من الجلابية!“ ومبتدعو هذا الشعار الأجوف كانت دوافعهم سياسية؛ فقد نادوا به لدحض ما كان المستعمر يقوله أن مصر بلد زراعي، ظانين أن الزراعة تقليل من شأن البلاد، ولابد أن نكون بلدًا صناعيًا.. وهكذا فقدنا تدريجيًا هُويتنا التي أثرتنا بالرخاء لآلاف السنين. ولا أعلم بعد كل هذا إن كنا قد أصبحنا بلدًا صناعيًا حقًا أم مازلنا بلدًا زراعيًا! وقد امتد التخبط الناتج عن صراع البحث عن الهُوية الأفضل ليؤثر على ما نتمناه كوالدين لمستقبل أبنائنا.. ومن هنا أصبح الاهتمام الذي نعطيه للتعليم والتحصيل الدراسي لا يعلو عليه أي شيء آخر في بيوتنا، والهم الأكبر في التربية هو كيفية العبور من عنق الزجاجة المسمى "مكتب التنسيق".. وإذا سألت أبًا أو أمًا عن الحُلم الأكبر لابنه أو ابنته، فغالبًا لن يتعدى تمني الوصول إلى إحدى "كليات القمة" بغض النظر عن ميوله الشخصية، أو قدراتها الدراسية، أو حتى المستقبل المهني الذي ينتظرهما بعد التخرج! "المهم هو الدرجة"؛ لأن الدرجة تأتي باللقب، واللقب يحدد المستقبل.. والدكتور لازم يتجوز دكتورة.. ودراسة الفنون تعني أن مهنة المستقبل "مدرس رسم"! المحظوظ هو الذي يدرس في إحدى كليات "القمة"، أما قليل البخت فمكانه في كليات ”القاع“، حتى ولو تعدى مجموعه ال ٩٠٪!! تسألني: "فين الشخصية أو الهُوية؟"
الإجابة: "دي حاجات هاتيجي بعدين!"
لقد كدت أن أضيع أنا شخصيًا في حداثتي، عندما وقعت في مصيدة هذا الصراع الطبقي الذي لا معنى له على كل مستويات الحياة، وفشلت بالرغم من كل المحاولات المضنية أن أجد لنفسي مكانًا في قائمة محظوظي القمة.. وبقيت "محلك سر" لبضع سنوات قبل أن أفيق على حقيقة أن مفتاح النجاح هو الشخصية وليس اسم الكلية. واليوم عندما أنظر للوراء وأرى الخط الذي يرسم المسافة بين النقاط التي توقفت عندها في مراحل عمري، أدرك أن التركيز على التعليم فقط في حياة الأبناء، مع إقراري بضرورته، يمكن أن يدمر بنفس القدر الذي نتوقع منه أن يبني! والسؤال كيف نمد أيدينا لننقذ أبناءً يتعثرون، بغير إرادتهم، بينما يحاولون الخروج من منطقة الإنجاز الدراسي الزلقة بأقل قدر من التأثير السلبي على شخصياتهم؟
هناك جو عام من الضغوط لا يمكن إنكاره "يكبس على أنفاس" الأبناء، بقدر ما يفعل مع الوالدين أيضًا، في كل ما يتعلق بالمدرسة والدراسة.
وبسبب التوتر الناتج عن هذه الضغوط غاب الاهتمام بتطوير الشخصية وتنمية المواهب، على حساب التحصيل الدراسي.. تُرى هل تفرد الأبناء في طبيعة ميولهم واختلاف قدراتهم على الاستيعاب، التي خلقهم عليها القدير، جاء بمحض الصدفة؟ وهل المواهب التي تُميزهم الواحد عن الآخر هي مجرد كماليات غير مقصودة، ولم تُمنح لهم من أجل تحقيق مستقبل أفضل وأسعد؟ أترك الإجابة لكلمة الله: "أحمدك من أجل أني قد امتزت عجبًا… فأنت صنعتني في الرحم، وأبدعتني هناك في الخفاء. رأتني عيناك وأنا جنين، وفي سفرك كُتبت أيامي كُلها… يوم تصورت!" (من كلمات النبي داود في مزمور ١٣٩ : ١٤ - ١٦).
”الدرجة أم الشخصية؟“ سؤال اعتدت أن أطرحه في اللقاءات التي تجمعني بآباء وأمهات للحوار حول التربية. وكم يدهشني تباين ردود أفعالهم عندما يسمعون ما أحكيه عما حدث مع ابني الأصغر في امتحان الشهادة الابتدائية منذ أكثر من عشر سنوات.. فقد كان سؤال التعبير في امتحان اللغة العربية: "اكتب موضوعًا عن جمال ونظافة مدينة القاهرة“! فماذا كتب العبقري؟ ”القاهرة جمالها ساحر.. لكن ينقصها النظافة وتملأها القمامة في أركان الشوارع!“ يا للهول.. "الواد هاينقص على الأقل ثمان درجات، ودي شهادة!" وهذا ما حدث.. أين الصواب في رأيك؟ أن يُجيب الابن عما يراه بعينيه واقعًا حيًا مع احتمال أن يتمسك المصحح بالإجابة النموذجية، وإن كانت غير واقعية.. أم ينافق ويكتب عكس الحقيقة من أجل الحصول على الدرجة.. وأهو امتحان ويعدي؟ سأعود في مرة قادمة للحديث عن تأثير جمود أساليب التعليم في بلادنا على شخصيات أبنائنا.. فما قيمة ما تُحشى به العقول ما لم يفهم الأبناء علاقة ما يدرسون من علوم بالحياة العملية من حولهم اليوم، ومستقبلهم المهني في الغد؟
فاجأنا ابننا الآخر بقرار ثوري أن يترك العمل كمعيد في إحدى كليات "القمة".. وتعليله لذلك أن المواد العلمية التي يدرسها للحصول على درجة في الدراسات العليا، لتؤهله أن يعلم آخرين، يرجع تاريخ إعدادها إلى أبحاث أجريت منذ حوالي ٥٠ عامًا مضت! وأي علاقة لهذه المواد بالتقدم المذهل الذي تلاحق عبر السنين حتى اليوم في مجال تخصصه؟! التحدي الصعب أمامه كان الاختيار بين ضياع بعض سنوات العمر في دراسة علوم عفا عليها الزمن من أجل الحصول على الوجاهة الاجتماعية للمنصب الوظيفي، أم استثمار الوقت في دراسة أحدث لا تحقق له طموحه العلمي فقط، بل وتؤهله لأن يخفف آلام الناس بأكثر كفاءة! بالطبع لم يجد هذا القرار استحسان كل المحبين الذين يرون أن وجاهة الوظيفة أهم بما لا يقارن بنوعية الحياة أو تحقيق الأحلام.. وأن التفكير ”خارج الصندوق“ عبث وضياع للفرص!
تُرى هل يحق لنا كأبوين أن نلوم العبقري الذي ضحى بالدرجة حتى لا يساوم على مصداقيته؟ أو نُلام لأننا لم نقنع المجنون الآخر ألا يتخلى عن وظيفته المرموقة، للاحتفاظ بمظهر حتى وإن افتقد للمضمون؟ ”لا“.. و”لا“! السبب ببساطة أن اختياراتهما نابعة مما حرصنا أن ندربهما عليه منذ أول يوم في المدرسة.. كيف يفكران باستمرار في ربط المعرفة العقلية مع واقع الحياة من حولهما: في الطريق، وفي البيت.. في النادي، وفي الكنيسة.. في أي مكان يذهبان إليه لابد أن يبحثا عن العلاقة بين ما يدرسانه وما يعايشانه في يومهما. بهذه الطريقة ازداد شغفهما بالدراسة لدرجة أن أحدهما كان يُصلي كل صباح: ”يارب ساعدني ألعب كويس النهاردة في المدرسة!“ لقد كان التعلُم في كل مراحل تعليمهما ممتعًا؛ لأنه ارتبط ببهجة استكشاف حقائق الحياة بالمعرفة أكثر من ارتباطه بكابوس الواجب المنزلي! هذا ليس كل ما أريد أن أشارك به من خبرتي كأب عن الأبناء ورحلة التعليم.. فالحوار له أكثر من بقية أتركها للمرات القادمة.
(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢ فبراير/ شُباط ٢٠١٤)
Copyright © 2014 Focus on the Family Middle East. All rights reserved