بقلم: سامي يعقوب
للمزيد من هذه اللسلسة:
أبناؤنا والتحول عن الدين ١
عندما يعبر أبناؤنا من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، ثم ينتقلون بسرعة إلى مرحلة الشباب، من الطبيعي أن تزداد رغبتهم في الحصول على المزيد من الحرية والاستقلالية، وتدريجيًا تتطور لديهم نظرة جديدة لأمور الحياة والدين.. وباختلاف نوعية الجو الأسري، وتنوع البيئة المحيطة بالأبناء كنسيًا واجتماعيًا ودراسيًا، تصبح الكثير من الإيمانيات والقيم السلوكية التي تعلَّموها في الصغر محل تساؤل، وربما قد يصل الأمر إلى رفضها والتمرد عليها! وما يفزع الآباء والأمهات أن هذا الموقف السلبي والمقاوم لما كانوا يظنونه ثوابت لدى أبنائهم لا يشمل فقط ما يتعلق بالتقاليد الموروثة، بل يأتي أيضًا بالمعتقدات الإيمانية والممارسات الكنسية إلى موضع الشك؛ فتبدو لهم متناقضة مع الواقع، ويقعون في حيرة تجعلهم كريشة في مهب الريح.
بغض النظر عما إذا كنا على علم بما يدور في أذهان أبنائنا من تساؤلات أم لا، لابد أن نواجه الواقع الذي قد يصدم البعض أن أبناءنا مدفوعين بروح الاستقلالية قد يصارعون مع واحد أو أكثر من أسئلة عابرة مثل: لماذا تعمدت وأنا طفل، عندما لم يكن لديَّ فرصة للاختيار؟ ما الفرق بين الإيمان المسيحي والأديان الأخرى؟ الأديان كلها واحد.. المهم هو الحب بين الناس! التدين أمر جيد، لكني لا أحب أن أذهب إلى الكنيسة. العبادة في الكنيسة مملة، والذين يذهبون إليها يتكلمون عن شيء لا يعيشونه! أبي وأمي مرائيان...إلخ.
إذا أزعجتك فكرة أن مثل هذه الأسئلة قد تدور في أذهان أبنائك.. فماذا يكون رد فعلك إذا واجهت أسئلة أعمق مثل: هل الله حقًا موجود؟ وإذا كان موجودًا فلماذا هناك ظلم وألم في هذا العالم؟ لماذا يموت الشباب غدرًا؟ ولماذا لا يقاوم الله الفساد؟ ولماذا ينتصر الشر؟ بالتأكيد هذه ليست سوى مجرد أمثلة لما يمكن أن يصارع معه الأبناء، وبالطبع ليس كل ما يدور في أذهانهم أو يواجهونه في مجتمع عالمي يسوده فكر "ضد المسيح"، ومجتمع محلي تتصاعد فيه بقوة نبرة تكفير الآخر!
بينما ننشغل عما يمكن أن يصارع معه أبناؤنا من أفكار وتساؤلات، قد نفاجأ أننا فقدناهم! أما إذا تجرأوا وعبروا عما بداخلهم، فواجهناهم بموجات من الغضب والاستنكار؛ ربما لعجزنا عن الرد، أو لاعتيادنا "روحنة" كل ما يتعلق بالدين، فعندئذ لن نفقدهم فقط، بل وسندمرهم أيضًا.. ولا أعرف لماذا نغضب أو نُصدم عندما نراهم يومًا ما يتحولون إلى دين آخر عن اقتناع أو تحت ضغوط إغراء.
من المؤسف أننا نعيش في بيئة تستبعد تلقائيًا الفكر والمنطق عند الحديث عن الإيمانيات، وترى محاولة الحوار حول أسس الإيمان من المحرمات.. فكيف نجرؤ أن نتساءل عما أنزله الله في الإنجيل أو القرآن؟ وكنتيجة لذلك يكبر الأبناء، في أحسن الحالات، بموقف داخلي أسميه "التعادل الديني"، وتقتصر مسيحيتهم على خانة الديانة في بطاقة الرقم القومي، والتعصب بإخلاص لنصرة كل ما هو مسيحي، تمامًا كما يتحمس جماعات "الألتراس" لدعم نواديهم الرياضية.
والحال لا يختلف كثيرًا بالنسبة للتعليم في الكنائس.. فالسؤال الذي لا يحب كثير من القادة الدينيين أن يواجهوه هو: "لماذا يترك الشباب الكنيسة اليوم؟" والسبب وراء تجنب حتى التفكير في هذا السؤال هو إجابته الصادمة: لأن الشباب يشعرون أن الوعظ والتعليم بالكنيسة لا يخاطب التحديات المعاصرة التي يواجهونها في حياتهم اليومية! فالله بعيد عنهم، وحضور العبادة بالكنيسة عبء؛ لأن التعليم بها لا يخاطب الواقع العملي، والإيمانيات بالنسبة لهم أصبحت مجرد محفوظات لم يتعلموا كيف يفكرون فيها أو يعللونها.. فماذا نفعل قبل فوات الأوان؟ وكيف نبني إيمان أبنائنا كمن يبني بيتًا على الصخر، قبل أن تأتي الأيام بزلزال يطيح بهم؟
في رأيي المسؤولية ثلاثية الأبعاد: الأبناء، الأسرة، والكنيسة.. الأبناء الذين نشأوا بقدرات طبيعية على التعبير بسهولة عما يدور بداخلهم مشكلتهم نصف محلولة، أما الذين لا يستطيعون ذلك فهم الذين يحتاجون منا لاهتمام عاجل بتطوير آلية للحوار المتواصل معهم، وتدريبهم بعقلية منفتحة وصبر ألا يصدقوا كل ما يسمعون، وأن يشاركوا بلا تردد كل ما يصارعون معه من أفكار. الأبناء يتجاوبون مع الجو المنفتح للحوار إذا شعروا بطمأنينة أن ما يشاركون به لن يقابل باستهجان أو استخفاف، سواء من الوالدين أو خدام الكنيسة. وما أسعد الأبناء الذين تهتم أسرهم بما يدور في داخلهم من مشاعر متضاربة، ومعتقدات قد تبدو متناقضة.. والاهتمام يترجم عمليًا بإعطاء الوقت للإصغاء بتفهم، ملاحظين أن ما يبدو بديهيًا للكبار قد يهز الأبناء بعنف؛ فيقودهم إلى طريق لا نتمناه لهم. لقد استطعت أن أكسب ثقة واحترام ابنيَّ عندما تحاورنا عن أمور لم أكن أعرف إجابتها، فذهبنا معًا لمصادر معرفة وجدنا فيها ما أقنعنا، وثبت إيماننا، وملأنا بالسلام الداخلي.
أما بالنسبة لمسؤولية التعليم الكنسي، فما أشد الاحتياج اليوم للتجديد والإحياء في أساليب التعليم بالكنيسة. وليس المقصود هنا أن نطور أسس الإيمان، أو نغير ما أخذناه عن الآباء، لكن التحدي أمام كل من يعلم أو يعظ أن يساعد من يستمع إليه أن يبني جسرًا بين الحق والتطبيق العملي الذي يخاطب تحديات الحياة المعاصرة.. عندئذ فقط يصبح لكل من الإيمان والعبادة معنى يرتبط بواقع ما يعايشه الأبناء اليوم.
(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢٦ فبراير/ شباط ٢٠١٢)
Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved .