بقلم: سامي يعقوب
المزيد من هذه السلسلة:
”هلُمَّ نتحاجج!“ (١) ”هلُمَّ نتحاجج!“ (٢)
في الأسبوع الماضي كنت شريكًا في حوار طويل ومثير حول أسباب غياب التواصل بين أُفراد الأسرة.. وبالطبع أول ما تحدثنا عنه من الأسباب التي تضغط على العلاقات الأسرية سواء بين الزوجين، أو بين الآباء والأبناء، هو تكنولوجيا التواصل! فما كنا نظن أنه يقرب المسافات هو الذي فرّق بين الناس، ودمر تدريجيًا مهارات التواصل.. لقد غاب التواصل بالكلام وأصبح بين غرفتين في بيت واحد باستخدام «التيكست مسيج»! أما الموبايل فقد أخذ عقول الناس، ولا حاجة أن نحكي عن تأثير العدد اللانهائي من برامج ومسلسلات القنوات الفضائية التي سلبت منا العمر دون أن تعطينا شيئًا!
هذه الأشياء تفقدنا بشكل أو آخر القدرة على التواصل بفاعلية، لكني أعتقد أن هناك أسبابًا أخرى لها تأثير أيضًا على قدرات التواصل بين الأزواج، ووسعت الفجوة بين الوالدين والأبناء. ولأن بعض هذه الأسباب تضعنا أمام تحدي تغيير سلوك ما اعتدنا عليه؛ فنحن نتجنب مواجهتها، كما قد لا نلتفت لبعض المؤثرات الأخرى التي تسبب فتور العلاقات بسبب زحمة الحياة، وضغوط المسؤوليات. على أية حال، نحن بحاجة لأن نتوقف لنفكر فيما يمكن أن يحمي زواجنا من خطر الانفصال المعنوي، الذي قد يقود في النهاية إلى الطلاق، وأن نرمم جسور التواصل مع أبنائنا قبل أن تدفعهم العزلة عنا للاندماج فيما يشكل خطرًا يهدد حياتهم.
التنشئة الاجتماعية والتربوية من أكثر الأسباب التي قد يكون لها تأثير سلبي على نوعية التواصل بين أفراد الأسرة. ربما كبرت في بيت كان إبداء الرأي فيه من الممنوعات.. أو لم يكن من تقاليدها الحوار قبل اتخاذ القرارات.. ربما كان الأب «سي السيد»، أو الجدة لا يُرد لها طلب. مثل هذه الخلفيات، مع أنها أصبحت تاريخًا، إلا أنها تؤثر في سلوكنا دون أن ندري؛ فيغيب التواصل مع الآخرين، ويدهشنا رد فعلهم لأسلوبنا في التعامل، مع أننا لم نكن نقصد أن نفقدهم.
الزمن تغير عن الأيام التي نشأنا فيها، ولم يعد أسلوب السلطة المطلقة، أو الأمر والنهي، يصلح في التعامل بين أفراد الأسرة. القول «ابن الطاعة تحل عليه البركة» أصبح له اليوم معنى يختلف عما كان يعنيه في أيام مضت.. فنحن في عصر الحوار، والاستنارة، والمساواة بين الرجل والمرأة، وحقوق الأطفال. العالم لم يعد ضيقًا كما كان أيام زمان.. التطلعات اختلفت واتسعت باتساع الكرة الأرضية! تُرى هل حان الوقت لننفض عنا تأثير خلفياتنا التربوية، والتي ربما كانت تناسب عصرها لكنها لا تناسب معطيات وتحديات اليوم؟ ربما نحن بحاجة لمراجعة أسلوب تعاملنا مع شريك حياتنا، ومع أبنائنا أيضًا؛ لنتمتع بما يعنيه دفء العلاقات الأسرية، ونختبر بهجة التوحد معهم فيما يفرحهم، وتعضيدهم بالحب في وقت أزمتهم.
زمان قالوا في الأمثال «مَنْ فات قديمه تاه».. نحن كثيرًا ما نردد هذا المثل الشعبي البسيط دون أن ندرك المعنى العميق الذي يؤكده.. المعنى هنا يتحدث عن أهمية الاحتفاظ بالهُوية، ولا علاقة له بالتمسك بأسلوب التفكير القديم عند التعامل مع معطيات العصر الحديث. في حديثه مع الفريسيين عن عدم جدوى خلط القديم مع الجديد، حكى الرب يسوع هذا المثل: «ما من أحد ينتزع قطعة من ثوب جديد لترقيع ثوب عتيق، لئلا يُشق الثوب الجديد، وتكون الرقعة التي انتزعها منه لا تلائم الثوب العتيق» (لوقا ٥ : ٣٦).
«أيتها النساء اخضعن لأزواجكن كما يليق في الرب» لا تعني أبدًا الخنوع أو الإحساس بالقلة، بل الوصية هنا تعني إتاحة الفرصة للزوج بأن يؤدي الدور الذي أعطاه الرب له كقائد للأسرة. «أيها الرجال أحبوا نساءكم» الترجمة العملية لهذه المحبة جاءت في بقية النص: «ولا تكونوا قساة عليهن».. القسوة تخلق الفجوة بينك وبين زوجتك. «أيها الآباء لا تغيظوا أبناءكم لئلا ييأسوا»؛ لأن اليأس يسبب الإحباط الذي يقود للعزلة، وهنا خطورة انزلاقهم في تواصل مع غريب يقتنصهم ويسيطر عليهم. هكذا يجب أن نقرأ وصية الرب للبيت المسيحي في ضوء شكل الحياة اليوم. لكن هناك أسباب أخرى لغياب التواصل الفعال بين أفراد الأسرة، ربما الحديث عنها لا يحتاج لتفاصيل كثيرة، لكنها تتسلل إلى حياتنا؛ فتجعلنا نعيش معًا كغرباء تحت سقف واحد.
السلوكيات العشوائية والمتأرجحة في التعامل تفرق بين الزوجين، وبين الآباء والأبناء.. المقصود هنا التشدد غير المبرر أو التساهل غير المتوقع. كذلك الحماية الزائدة عن الحد، والتتبع الفضولي لتحركات الآخر.. «بصراحة دي حاجة تطفش!» أيضًا التوتر المستمر في البيت، والذي كثيرًا ما يكون نتيجة لضغوط الحياة أو الاجهاد في العمل.. وأسوأ أنواع التوتر هو الذي يرتبط بمخاوف نابعة من أوهام عن مخاطر غير واقعية.. التوتر في البيت يهدد العلاقات الأسرية.
التأنيب المستمر، الصوت المرتفع، النقاش الحاد، والغضب.. هذه الأربعة من أكثر الأسباب الشائعة التي تقطع خطوط التواصل بين الناس.. «اعلموا هذا، يا إخوتي الأحباء، ليكن كل واحد منكم سريعًا إلى الاستماع بطيئًا عن الكلام، بطيئًا عن الغضب؛ لأن غضب الإنسان لا يعمل للحق عند الله» (يعقوب ١ : ١٩ - ٢٠).
السخرية تقلل من شأن الآخر فتعزله عنك، والاستهزاء يبني جدارًا معنويًا يعيق تواصله معك. الاستهانة برأي الآخر وقمعه برفض النقاش معه يخلق نوعًا من الخوف يجعله يتجنب التواصل؛ فيسود الصمت، وتنعدم الثقة، فتتفكك العلاقات.
في بعض الشواطئ تبدو مياه البحر ناعمة ومغرية للقفز فيها للاستمتاع بالسباحة، لكن العلم الأسود يكون مرفوعًا للتحذير من خطر «السحب».. أي وجود دوامات قوية تحت السطح الذي يبدو هادئًا، تسحب مَنْ يعوم للداخل فيغرق. أحيانًا تبدو العلاقات الأسرية على ما يرام ظاهريًا، لكن تحت السطح هناك اجترار لمرارة نابعة عن عدم المغفرة لموقف أو إهانة مضى عليها زمن ولم يتم التعامل معها في وقتها؛ فتقود إلى قسوة وخصام وعناد، فتضيع روح الحب بهذا «السحب» في البيت.. «احرصوا أن لا يحرم أحد نفسه من نعمة الله، وأن لا ينبت فيكم عرق مرارة يسبب انزعاجًا ويفسد الكثير من الناس (العلاقات)» (عبرانيين ١٢: ١٥). وإلى بقية الحديث في المرة القادمة.
(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢٢ إبريل/ نيسان ٢٠١٨)
Copyright © 2018 Focus on the Family Middle East. All rights reserved
..