بقلم: سامي يعقوب
إلى كل الذين يصارعون ليفهموا تدبير العناية الإلهية، وقصد الله بأن يسمح لشعبنا وكنيستنا أن نعاني الألم والحزن الناتجين عن الحريق المروع في كنيسة أبي سيفين بالمنيرة، والذي قطف أرواح عشرات الكبار والصغار قبل الأوان، وأصاب آخرين، ممن كانوا يشاركون في صلاة قداس يوم الأحد الماضي.. إلى كل مَنْ أصابته المحنة مباشرة، أو كل مَنْ يشعر بالحزن والإحباط بسبب ما أصابه أو رآه أو سمعه من بشاعة الحدث.. إلى قداسة البابا تواضروس، وكهنة وشعب الكنيسة وجميع الأراخنة، بل وشعبنا المصري بمختلف طوائفه، وإلى كل المتألمين في كل بيت.. قلوبنا تعتصر معكم، ونقدم لكم أصدق التعازي. وبينما نشارك معكم كلمات تعزية ورجاء من كلمة الله، نُقر بأن البشر مُعَزون متعبون، وأنه ليس باستطاعة أحد أن يقدم أجوبة وحلولاً بسيطة لكل متناقضات الحياة التي تأتي علينا بكوارثها بدون استئذان.
الظروف في قسوتها قد تجعل البعض يشعرون أن الله بعيد، ولا يهمه ما يحدث معنا، خاصة عندما نفاجأ بفاجعة مثل هذه، وقد يضعف عزمنا ونكاد أن نفقد إيماننا عندما لا تتفق مقاصد الله مع توقعاتنا منه.. عندما نقف مكتوفي الأيدي أمام تحدي الموت، ووجع الإصابات والحروق، من الطبيعي أن تربكنا الأسئلة: لماذا يسمح الله بهذه الظروف القاسية، مع أننا نحبه ونعبده بصدق القلب؟ لماذا يموت أبناؤنا وإخوتنا وآباؤنا، وهم في بيت الرب يقدمون له العبادة والصلاة؟ لماذا الألم والمعاناة ونحن نسعى أن نحيا معه ونرضيه؟
إذا كنا نعتقد أن الله مُلزَم بأن يجيبنا على هذه الأسئلة، فلا بد أن نرجع للكلمة المقدسة لنتذكر أننا في محدوديتنا البشرية نفتقر للقدرة على استيعاب فكر الله غير المحدود. يقول الله عن نفسه: «أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي يقول الرب. لأنه كما علت السماوات عن الأرض، هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم» (إشعياء ٥٥: ٨- ٩)، والرسول بولس يعلِّمنا أن أحكام الله بعيدة «عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء» (رومية ١١: ٣٣). من الواضح أن الله في حكمته لا يختار أن يُفصح لنا دائمًا عن فكره؛ وهذا يعني أن كثيرًا من تساؤلاتنا، خاصة التي تبدأ بأداة الاستفهام "لماذا"، ستظل بلا أجوبة إلى حين. وإن كنا نرى ما يحدث يتناقض ظاهريًا مع محبته لنا، لكننا سنفهم فيما بعد.. عندما نراه وجهًا لوجه، عندما نعبر نهر الحياة وندخل للمجد السماوي في حضرة الله.
تُرى هل يستخدم الآب السماوي مثل هذا الضيق حتى يقوي إيماننا؟ بدون أي استخفاف بما نشعر به من حزن وألم، لا بد أن نقبل هذه الحقيقة بالرغم من صعوبتها! فهذا ما يخبرنا به الرسول يعقوب: «احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة، عالمين أن امتحان إيمانكم يُنشئ صبرًا» (يعقوب ١: ٢- ٣). ومن قبله أنذرنا السيد المسيح بنفس المفهوم بكل وضوح لنتوقع الألم والضيق: «قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم» (يوحنا ١٦: ٣٣).
عندما نصارع مع أسئلة لا نجد إجابة لها، لنتمسك بثقتنا في الله بالإيمان، ولنتذكر أنه لا يسمح أبدًا بحدوث ما يمكن أن يجعلنا نفقد إيماننا.. لا يوجد ما يوضح معنى هذا الإيمان أكثر مما ذُكر في إصحاح "أبطال الإيمان" في الرسالة إلى العبرانيين ١١؛ حيث يُعرَّف الإيمان بأنه الثقة بأمور ليس لها دليل قاطع.. أي الثبات بقوة عندما تخذلنا الأدلة والبراهين، وحتى عندما لا يُجيبنا الله عن تساؤلاتنا. ثم يصف حياة الرجال والنساء الذين احتفظوا بإيمانهم في ظل ظروف قاسية لا تُحتمل.. لقد تعرَّضوا لكل أنواع الضيقات والمخاطر من أجل إيمانهم بالمسيح: عُذبوا، سُجنوا، جُلدوا، رُجموا، نُشروا، قُتلوا بحد السيف، كانوا «معتازين (مشردين)، مكروبين (مقهورين)، مذلين (مظلومين)»، يلبسون جلود غنم وجلود معزى، «تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض». العجيب أن هؤلاء الأبطال تمسكوا بإيمانهم حتى النَفَس الأخير، بالرغم من أن الله لم يُعطهم تفسيرًا لما يحدث معهم، وماتوا دون أن يحصلوا على ما وُعدوا به!
يا شعب كنيستنا بالمنيرة، ما أدمى قلوبكم أدمى قلوبنا جميعًا، بل وقلوب كثيرين حول العالم؛ فتَوحَّدنا مع آلامكم بالصلاة من أجلكم، وكلنا ثقة في نعمة إلهنا أن تساندنا كلنا في هذه الكارثة بينما يشرق بنوره وسط الظلام والمعاناة. لقد وقفت الكنيسة عبر العصور صامدة في وجه أصعب التحديات، لم تكسرها الفواجع القاسية، ولم تُفقد المصائب عزيمة شعبها أن يواصل مسيرته متمسكًا بالله ومحبًا للحياة. فلنتشجع إذًا، ولا نسمح لقسوة الظروف أن تجعلنا نيأس أو نخور. وعندما تواجهنا الصعاب، فلنتيقن أن الله يستخدم الضيقات ليحقق مقاصده، بل في الواقع يستخدمها لأجل خيرنا؛ ولنتطلع معًا إلى الوقت الذي تصبح فيه آلامنا الحالية مجرد ذكرى باهتة عند ملاقاة الرب.. «لتتشدد ولتتشجع قلوبكم يا جميع المنتظرين الرب» (مزمور ٣١: ٢٤).
أيتها النفوس المتألمة.. يا كل المجروحين جسديًا، نفسيًا، أو روحيًا، والمحتاجين لكلمة تعزية وتشجيع، لننتهز فرصة هذه الظروف الصعبة لنجدد ثقتنا بإله السماوات والأرض، ولنجد راحتنا في كلمة الله التي لا تتغير أو تزول. الله لا يربكه أو يفاجئه ما يحدث معنا كأفراد وعائلات وكنيسة؛ فهو ضابط الكل الذي يُمسك الأكوان بيديه، ويؤكد لنا كل يوم وعده: «لا تخف لأني معك، لا تتلفت لأني إلهك، قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين بري» (إشعياء ٤١: ١٠).
إن يوم المجد آتٍ وكأن شيئًا لم يحدث في تاريخ البشرية.. اليوم الذي فيه نسجد بين يديه، ونسمع صوتًا يدوي من السماء يقول: «هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد؛ لأن الأمور الأولى قد مضت» (رؤيا ٢١: ٣- ٤).
(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢١ أغسطس/آب ٢٠٢٢)
Copyright © 2022 Focus on the Family Middle East. All rights reserved.