بقلم: سامي يعقوب

   للمزيد من هذه السلسلة:

    كيف ننظر للمستقبل ١             كيف ننظر للمستقبل ٢                  كيف ننظر للمستقبل٣


  لا يخلو حديث أي أسرة عما يمكن أن تحمله الأيام في ظل أحداث الوطن، التي تبدو في ظاهرها متضاربة.. لدرجة أن السؤال: "ترى هل يمكن أن يتخلى الله عن شعبه المؤمنين به؟" بدأ يتردد بشكل أو آخر معبرًا عن حالة من القلق والشك، خاصة فيما يتعلق بمستقبل الأبناء في هذا الوطن .

في الأسبوع الماضي التقيت مع أسرة بالأسكندرية، تسكن بالقرب من كنيسة القديسين الشهيرة بمنطقة سيدي بشر، وأصغيت إلى حديث صادق من والدين عن تشجيعهما لابنهما الوحيد بالهجرة، وسرورهما بأنه قد نجح في تحقيق رغبتهما هذه. وقد ترك الابن البلاد مع أنه كان ناجحًا ومستقرًا في عمله، وسعيدًا مع أسرته الصغيرة! وقد بدا واضحًا أن الصراع بين رغبة الوالدين في بقاء الابن والحفيد بالقرب منهما، والهلع الذي أصابهما بعد الحادث الإرهابي الذي ضرب كنيستهما مع بداية العام الماضي، قد أجبرهما على اختيار يناقض قناعتهما بأن المعيشة هنا، وإن كانت تصعب أحيانا، إلا أن لها مذاقًا خاصًا لا يجده الواحد منا في أي مكان آخر في العالم. على أية حال، لا أحد يستطيع أن يلوم الآخر إذا قرر في ظل الظروف الضاغطة أن يشد الرحال إلى آخر العالم، سعيًا وراء حياة أكثر أمنًا واستقرارًا، مع الإقرار بأن الاستبدال الجغرافي لمكان المعيشة ما هو إلا استبدال لنوع المشاكل! وتركت أصدقائي وأنا أتساءل مع نفسي: ماذا يحدث لو تسربنا واحد بعد الآخر تاركين البلاد التي قصد الله أن يزرعنا فيها لنثمر بركة لشعبها، وهو الذي يعرف مسبقًا نهاية أحداث التاريخ قبل أن تبدأ؟

 

أحداث الفترة الماضية، بداية من فرحة الثورة، وحتى إحباطات ما أفرزته الأشهر الأخيرة من مخاوف تأثير طغيان التيار الديني المتشدد على البلاد بصفة عامة، وعلى المسيحيين بصفة خاصة، زادتني إصرارًا على البقاء مع أسرتي هنا. وقد بدأنا نشعر بامتياز أن تتاح لنا فرصة أن نعيش هذه المرحلة من تاريخ بلادنا، بكل ما تحمله من آلام المخاض التي تسبق ولادة وطن جديد.. ومع آخرين كثيرين نستمد شجاعتنا لنستمر في مواقع عملنا وخدمتنا من اقتناعنا العميق بأن الله قد أعدنا لنعلب دورًا صغيرًا كان أو كبيرًا لتتميم مقاصده العليا.. فقط علينا أن نميز توقيتاته الإلهية لإنجاز هذه المقاصد، وأن نتيح أنفسنا له بلا تردد أو خوف لنقوم بالدور الذي عيّنه لكل واحد منا . 

الله لم يُخطئ عندما أوجدنا لنعيش في مصر اليوم؛ فبدلاً من أن نفقد الفرصة التي أتاحها لنا لنكون جزءًا مؤثرًا في إتمام مقاصده، لنسمح له أن يعمل شيئًا بحياتنا حيثما أوجدنا، ولنتوقع المزيد من الفرص التي يُتيحها لنا لنقف في الثغر، وننجز أعمالاً لم نكن نظن بمحدوديتنا أن يصنعها الله القدير من خلالنا. قد لا يتفق اختيارنا لحياتنا مع ما يظنه العامة بأنه صواب، وقد يصارع أبناؤنا مع قبول أو رفض نصيحة الأصدقاء والأقارب التي تبدو مكتملة الحكمة، كذلك قد لا يتفق ما نشعر أن الله يُريده منا مع ما نميل لأن نعمله.. لكن في كل الحالات تظل البوصلة التي تحدد لنا الاتجاه هي نفسها التي قادت الآباء عبر التاريخ حتى وصل الإيمان المسيحي إلينا اليوم.. إنها بوصلة الرغبة الصادقة في أن نتبع خطة الله لحياتنا أيًا كانت التكلفة .

 

حوارات الأسبوعين الماضيين في غرفة معيشة بيتنا كانت حول قصة فتاة صغيرة، يتيمة الأبوين، تبناها ابن عمها ليربيها، ثم أخذها إلى قصر الإمبراطور في العاصمة حيث كان يعمل في الديوان الملكي، لتنضم إلى مجموعة من العذارى اللاتي جمعهن خدام الملك قصرًا أو برغبتهن؛ لإعدادهن إعدادًا خاصًا ليختار منهن التي تروق له لتحل مكان زوجته الملكة، التي خلعها عن عرشها في لحظة غضب، كانت الخمر قد لعبت فيها برأسه! ولم يمض وقت طويل قبل أن تجد هذه الفتاة نعمة في أعين القائمين على إعدادها للعرض على الملك، الذي بدوره أحبها، وتزوجها لتصبح الملكة الجديدة .

لم يكن الملك يعرف آنذاك أي شيء عن الخلفية الدينية أو إيمان تلك الفتاة.. كما لم تكن هي تعرف لماذا جاء بها الله إلى القصر. ومع سعادتها بما نالته من كرامة، لم تفكر للحظة في الدور الذي كانت ستقوم به لتنقذ شعبًا بأكمله.. تنقذه من هلاك خطط له وموّله مسؤول شرير، ملأ الحقد قلبه، وأعمته الرغبة في الانتقام عن أن يرى تحذيرات الله له بأن يتوقف عن مؤامراته الخبيثة، حتى هلك هو نفسه، وحفظ الله شعبه من الهلاك، في وقت ظنوا فيه أنه قد تخلى عنهم !

هل سبق لك أن قرأت سفر أستير في العهد القديم بالكتاب المقدس؟ أستير ليست من بين أشهر الشخصيات الكتابية التي ربما لا يهتم الكثيرون بدراسة السفر الذي يسجل قصتها. لكن الأحداث التي يرويها هذا السفر تُخبرنا عن واحدة من أعظم قصص تاريخ الله مع شعبه، وتؤكد لنا أن العناية الإلهية تتدخل دائمًا في الوقت المناسب لتصنع خلاصًا للناس بطرق عجيبة، وفي وقت يبحث فيه الجميع عن إجابة لأسئلة لا يجدونها في خطط البشر .

 

لقد سمعت قصة أستير كطفل صغير، وكانت تعجبني لما فيها من إثارة. ومخاطرة أستير بحياتها لكي تنقذ شعبها كانت تحرك في داخلي مشاعر من نوع خاص، ربما تكون هي السبب الذي طوّر جزءًا من شخصيتي لأقبل المخاطرة في إنجاز ما أشعر أن الله يقودني أن أعمله. ولما كبرت، قرأت السفر مرات عديدة، وظلت قراءته تحركني، لكن قراءتي الأخيرة له أدهشتني كما لم يحدث من قبل.. فقد رأيت بوضوح أن أحداثه تخاطب الكثير من المخاوف التي نعايشها اليوم في هذا الجو العام من الاضطراب. والحوار مع أسرتي حول تطبيقات ودلالات ما سجله الوحي المقدس عن مواقف واختيارات أبطال هذه الملحمة الرائعة، أدخل الطمأنينة في قلوبنا، وجدد عزيمتنا لنجاهد أن نعيش معًا حياة الطاعة الثورية للرب، حتى وإن بدت أنها لا تتفق مع المنطق، وتتناقض مع ما يظنه البعض أنه يضمن لهم الحياة الأفضل .

 

أدعوكم جميعًا أن تقرأوا معي سفر أستير من جديد، وأرجو أن تبدأ الكنائس حوارًا ودراسة تطبيقية لأحداثه يمكن أن تقودنا جميعًا لنتمتع باختبار بركة متجدد، نتبع فيه الله بالإيمان إلى حيث يقودنا ويستخدمنا، كأفراد وككنيسة في الأيام المقبلة .

 وللحديث حول سفر أستير بقية نعود إليها في المرات القادمة .


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢٩ أبريل/ نيسان ٢٠١٢)

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved