بقلم: سامي يعقوب

إن كنت تشعر أن المخاوف تحيط بك وبأسرتك فأنت لست وحدك؛ فأغلب المصريين يقاسمونك هذه المشاعر بسبب مظاهر الصراع على السلطة المحتدم منذ فترة، والذي يبدو أنه وصل إلى ذروته مؤخرًا! فالتهديدات الصريحة وغير المباشرة التي يرددها بعض المتشددين صورت للكثيرين -بكل أسف- أن الآتي كله ظلام أو دمار! ولأنني لست بعيدًا عن واقع الأمور في الشارع المصري بحكم عملي؛ أستطيع أن أجد بعض المبررات لهذه المخاوف بقراءة المؤشرات التي تنذر بما قد يُصيب بلادنا سواء فاز الفريق الذي يدعم الحكم المدني، أو الجماعة التي تريد فرض الحكم الديني على البلاد.. إلا أنني في نفس الوقت أعتقد أن أغلب مخاوفنا قائمة على أفكار قد تكون غير واقعية، أو ربما تكون نابعة من تصورات بنيناها على تصريحات إعلامية هوجاء أطلقها البعض لكسب تعاطف تيار معين، وحرص أحيانا على زيادة درجة سخونتها بقصد ممارسة ضغوط معنوية على أصحاب القرار، أو لترهيب فئات معينة من المجتمع.

 

قد نتفق أو نختلف في وجهة النظر، لكني أعتقد مع كثيرين ممَنْ تحدثت معهم أن تنفيذ ما تتضمنه تلك التصريحات على أرض الواقع قد يكون صعبًا إن لم يكن مستحيلاً.. ففي اعتقادي أن الرجوع لشكل وأساليب النظام السابق أمر يصعب تحقيقه. كذلك لا أحد منا، مسيحيين كنا أو مسلمين، يعرف على وجه الدقة ما تعنيه عمليًا عودة الخلافة الإسلامية، وتأثير ذلك في حالة حدوثه على الحياة المعاصرة في القرن الحادي والعشرين، وكيف يمكن أن يتجاوب شعب له تاريخ وطبيعة خاصة مثل المصريين سواء بالمقاومة أو الرضوخ للديكتاتورية الدينية.

إذن فأغلب المخاوف التي تُحيط بنا مازالت في حدود الأفكار.. بعضها واقعي، وأغلبها أصابه التضخيم بتأثير وسائل الإعلام. وما أبشع الخوف عندما يتملك على الإنسان، وعندما تنفرد الهواجس به في ليل طويل! ولأن الخوف عدو؛ فإنه يُصيب الإنسان بالشلل الفكري، وعندما يتضخم يُصيبه بعمى البصيرة، فلا يستطيع التمييز، ويقع في هوة اليأس.. هنا يأتي إبليس، وهو خبيث يجول ملتمسًا أن يبتلع الخائفين؛ فيشككنا في قدرة إلهنا، ويحاول بأفكاره التي لا نجهلها أن يقودنا في النهاية لأن نفقد إيماننا، فنصرخ في وجه الله: "لماذا تتركنا نهلك؟" مع أننا لم نهلك بعد، ولن نهلك أبدًا.. والدليل على ذلك أنني أكتب إليك اليوم، وأنت تقرأ الآن، بالرغم من كل المحاولات التاريخية الشريرة التي سعت عبر مئات السنين أن تقضي على الكرمة التي غرسها الله في مصر ولم تنجح!

هناك وجهات نظر متباينة فيما يتعلق بكيفية تعامل المسيحي مع الأمور عندما تضيق، ويبدو أن الطريق الرحب تحول ليصبح نفقًا ضيقًا. والسؤال الذي لابد أن نتعرض له في مثل هذه الظروف هو: "هل الثقة بالله، ضابط الكل، تعني أن نأخذ موقف المتفرج مما يحدث، أم هناك ما نحتاج أن نعمله لكي نُعد أنفسنا وأولادنا للتعامل مع الواقع أيًا كان شكله؟" 

لقد وجدت فيما حدث عند خروج العبرانيين من مصر ما يمكن أن يساعدنا لنجد التوازن بين الثقة في قدرة الله، وضرورة تأهيل أنفسنا وعائلاتنا فكريًا وروحيًا وعمليًا للتعامل مع الواقع بشكله الجديد. فبعد أن أجرى الرب عجائب ومعجزات، اضطر فرعون في النهاية أن يسمح للعبرانيين أن يخرجوا من مصر.. وقد كان العبرانيون آنذاك عبيدًا، بلا حول ولا قوة، ولم يكن لديهم اختيار سوى أن يتكلوا على المعونة الإلهية للإله القدير.. لكن  في نفس الوقت، طلب الله منهم الاستعداد للخروج الذي كان بداية لمرحلة جديدة في حياة الشعب. فكان على كل أسرة أن تذبح حملاً، وتضع من دمه على أعتاب وقوائم باب البيت حتى تحمي ابنها البكر من الملاك المهلك. كذلك كان لابد للجميع أن يأكلوا الفصح وهم في حالة استعداد تام للانضمام الفوري إلى مسيرة الخروج عند سماعهم الأمر بأن يفعلوا هذا.. لقد طلب الله من الشعب أن يعدوا أنفسهم مُسبقًا للتعامل مع الحدث، حتى لا يهلك أي من أبنائهم  الأبكار (خروج ١٢- ١٤).

إعداد الأسرة والأبناء لمواجهة مخاطر ومخاوف المستقبل التي قد تأتي علينا بسبب الأوضاع السياسية المضطربة للبلاد يشبه كثيرًا شراء بوليصة تأمين على الحياة أو على الممتلكات.. فهذا التدبير يعني توقع حدوث خطر ما، ربما لن يحدث بالضرورة، لكننا نعد أنفسنا لاحتمالية حدوثه.. فإذا حدث تكون هناك ترتيبات مسبقة للتعامل مع ما يترتب عليه من نتائج. وليس في مثل هذا الموقف قلة إيمان، بل تفعيل للحكمة التي أعطاها الله للإنسان ليدبر أمور حياته المستقبلية باختيارات يتمم الله من خلالها مشيئته الصالحة لحياته. وأي وثيقة تأمين هي تعاقد بين طرفين: مُؤمِّن يضمن التدخل عند حدوث الأزمة، ومؤمَّن عليه أو مستفيد يشمله الضمان التأميني في مواجهة المخاطر. ولعل المثال لا يحتاج لشرح؛ لأن وثيقة التأمين الإلهية لكل مسيحي طرفها الأول هو الله القدير، وأقساطها تغطيها المعونة الإلهية التي نحصل عليها جديدة مع كل صباح.

لم يتوقع العبرانيون أن يلاحقهم المصريون بعد خروجهم من مصر.. كما لم يحذرهم الله من هذا الهجوم المباغت، كما حذرهم من الملاك المهلك.. وفجأة وجد الشعب نفسه محصورًا، بلا مجال للهرب، بين البحر الأحمر أمامهم وفرعون وجيشه من خلفهم. وكل من الاختيارين كان بالنسبة لهم هلاكًا محققًا! لقد سمح الله أن يضعهم في هذا الموقف ليُظهر قدرته على أن ينقذهم، حتى عندما لا يبدو أن هناك مخرجًا مُتاحًا من الأزمة بحسب المقاييس والإمكانات البشرية. هذه هي قرينة النص الكتابي الذي نتشجع به اليوم: "لا تخافوا.. قفوا وانظروا خلاص (إنقاذ) الرب..." (خروج ١٤: ١٣). ما أعظم هذا الإعلان الإلهي الخالد الذي أعطاه الله لشعبه عندما خافوا، وفقدوا إيمانهم، وصرخوا إليه! ولايزال صدى هذا الإعلان الحي يتردد عاليًا في أرجاء المسكونة حتى اليوم، في كل مرة يفقد فيه أبناء الله شجاعتهم أمام ضغوط المقاومين! في تلك الليلة تدخَّل الله، وبإعجاز فتح طريقًا في البحر أمام الشعب، ولما حاول المصريون أن يتعقبوهم غرقوا، ولمدة أربعين سنة تالية قاد الله شعبه في البرية، حيث لم يكن أمامهم سوى أن يتكلوا عليه، وعليه وحده.

 

لا أشك أن في كل ما يحدث اليوم في ديارنا المصرية نداء إلهيًا لكل أسرة أن تبدأ من الآن -ما لم تكن قد بدأت بالفعل- أن تُعد أبناءها فكريًا، ومعنويًا، وروحيًا؛ ليكونوا مؤثرين في المرحلة المقبلة أيًا كانت طبيعتها.. وليجدوا في مصر الجديدة فرصة لحياة أفضل من تلك التي قاسيناها نحن الكبار في السنين الماضية. ولنذكر أن ما سبق وأعده الآباء في ليلة الخروج هو ما حمى الأبناء من الهلاك!


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ٢٤ يونيو/ حزيران ٢٠١٢)

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved  .