بقلم: سامي يعقوب 

للمزيد من هذه السلسلة:

العصا من يد إلى يد ١

العصا من يد إلى يد ٢


كنت أظن أنني سأتوجه بحديثي هذه المرة إلى قداسة البابا تواضروس، لكن المشاعر التي غمرتني أثناء حضوري طقس تجليسه على كرسي مارمرقس الرسول ملأتني بخواطر أخرى أريد أن أشارك بها مَنْ يتابعون هذا الركن من وطني.

عُرس الأحد الماضي لم يكن مجرد احتفال كنسي بتسليم مفتاح الكنيسة للبابا الجديد؛ فقد تحول الطقس إلى فرصة لإعلان إلهي أمام العالم كله، مؤكدًا بركة اختيار الله لمن يقود شعبه إلى مرحلة جديدة تحتاج لرجل مثل البابا تواضروس.. "عطية الله"!

 

ومع أن هذه المناسبة المهيبة يحكمها في العادة طقس كنسي رتَّبه الآباء، وتوارثته الأجيال لقرون عديدة، ليُمارس عندما تنتقل عصا القيادة إلى البطريرك الجديد.. إلا أن مراسم التجليس في هذه المرة تخطت حدود الطقس والتقليد لتصبح خدمة عبادة تاريخية حركت الملايين ليمجدوا الله، وقدمت بأسلوب صادق وعملي نموذجًا لعمل نعمة ربنا ومخلصنا، ابن الله الحي، في حياة أبنائه، والتي أثمرت تواضعًا غير مسبوق، ومحبة غامرة لم ير العالم مثيلاً لها.. فأبهرت النعمة البعيدين والقريبين! ما هذه الروعة يا كنيسة المسيح القبطية؟! منذ جاءك مارمرقس الرسول بالإنجيل، والإيمان الذي تمسكت به رواه نهر دماء الشهداء، فأنت شجرة جيدة تصنع أثمارًا رائعة بحسب قول المسيح في متى ٧: ١٧.

لقد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك؛ فكنتِ وستظلين أمًا ولودة لأجيال وراء أجيال، ليتسلموا ميراث الإيمان الذي حافظت عليه لألفي عام. وسنظل عليه لنسلمه للأبناء والأحفاد حتى اليوم الذي يأتي فيه الرب ثانية ـيا ليته يأتي سريعًاـ ليأخذنا ككنيسة معًا لنكون معه كل حين.

بينما كنت أراقب الآباء الأساقفة، يقودهم الجليل الأنبا باخوميوس، شعرت بالانبهار والفخر المسيحي.. وكان قلبي يخفق مرددًا "آمين" مع المرتلين عندما تقدَّم كل منهم ليضع الصليب على ملابس الكهنوت للبابا الجديد، وهو يمجد إلهنا لأجل اختياره قائلاً: "مبارك الابن يسوع المسيح ربنا!" قالوها بعدة لغات، وفي كل مرة كنت أشعر بالمزيد من الرهبة التي ملأت الكاتدرائية، وغمرت القلوب التي تعلقت بكل لحظة من الحدث.

لا شك أن روح الاتضاع والمحبة التي سادت الموقف بأكمله استمدت جذورها من فكر المسيح الذي عبَّر عنه الروح القدس بكلمات الرسول بولس في رسالة فيلبي الأصحاح الثاني: "... إن كانت هناك مشاركة في الروح فعبِّروا عنها بالحنان والرأفة؛ لأن الفرح يكمل عندما يكون المؤمنون بالمسيح على رأي واحد، ومحبة واحدة، وقلب واحد، وفكر واحد.. بدون تحزب أو صراع على السلطة، بلا تباهٍ أو افتخار، بل بتواضع، مقدمين الآخرين في الكرامة، كل واحد على نفسه. فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا..." (قراءة شخصية للأعداد ١ـ ٥.. الأعداد التالية أروع مما يمكن أن يُعبر عنها).

 

البابا شنودة.. "الغائب الحاضر"، الذي على مثال النبي موسى أعد وتلمذ في سنوات رعويته جيلاً رائعًا من رجال الله الذين يحملون مسؤولية الكنيسة، الذين من بينهم اُختير البابا تواضروس؛ فترك الكنيسة في وضع يمكن أن تستمر معه خدمتها ورسالتها الممتدة حتى بعد غيابه بالجسد عنها.. "وهكذا يدوم الثمر".

"البابا تواضروس الثاني" نجم عكس بانسحاقه ودموع اتضاعه نور "شمس البر"، فسطع على قلوب عانقته بتلقائية وفرح لا ينطق به من لحظة اقترابه من بوابة الكنيسة حتى جلس على كرسي الرسولية.. في كل مرة رأيت الدموع تلمع في عينيه لم يخطر في بالي سوى حديث الله مع يشوع يوم انتقلت إليه عصا القيادة ليقود الشعب في رحلة جهاد الإيمان: "لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك. كما كنت مع موسى (الذي قبلك) أكون معك. لا أهملك ولا أتركك... تشدد وتشجع.. لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب." (يشوع ١: ٥، ٩). ومع تزايد هتاف الجموع، وزغاريد الفرح التي ترددت بين الجدران، شعرت أن ما قاله الرب للشعب وليشوع قبل أن يعبروا نهر الأردن إلى الأرض الجديدة متجسدًا بشكل مذهل أمامي: يا أبناء الكنيسة.. "تقدسوا لأن الرب يعمل غدًا في وسطكم عجائب" (يشوع ٣: ٥). أما أنت يا قداسة البابا يقول لك الرب: "اليوم أبتدئ أعظمك في أعين جميع الشعب لكي يعلموا أني كما كنت مع موسى أكون معك." (يشوع ٣: ٧).

أما الأنبا باخوميوس، ذهبي الفم والقلب، فقد أبهر الجميع بنموذج إيمانه، وحكمته، وتواضعه! فمَنْ يستطيع أن يقول من كل قلبه لتلميذه الذي أصبح رئيسًا للأساقفة: "سأكون خادمًا تحت قدميك" هذا هو العظيم في ملكوت الله.. لقد سبق الجميع، ووضع مقياسًا جديدًا وعمليًا لما يجب أن يسعى إليه كل قائد كنسي، ومؤمن يحب إلهه. عندما بدأ الأنبا باخوميوس في تلاوة الإعلان الرسمي للمجمع المقدس عن إتمام تجليس البابا، فاجأ الجميع بقوله: "أنا باخوميوس الحقير"! وربما لم يفهم البعض في البداية معنى ما كان يقوله هذا الرجل القدير.. فبكلمة واحدة أعلن أمام العالم أنه لولا نعمة ومعونة الله، وصلوات وصوم المؤمنين، لما استطاع أن ينجز المهمة التي كُلف بها بمثل هذه الروعة.. فكان إقراره هذا تاج مجد على رأسه!

أما المايسترو الفذ: الأنبا بولا، فقد أسمع العالم سيمفونية تنظيم رائعة، بالعزف بمهارة على أوتار شباب الكشافة؛ فأخرج عملاً رائعًا سيسجله التاريخ للكنيسة. وهو الذي لم يذُق النوم إلا قليلاً منذ أخذ على عاتقه الإعداد للانتخابات البابوية، ثم القرعة الهيكلية، وأخيرًا كل ترتيبات حفل طقس التجليس.. ما أروع ما ذخره الله من إمكانات ومواهب في كنيسته! يا له من نموذج تتحقق به الحكمة القائلة: "لا حدود لما يمكن أن ننجزه، مادمنا على استعداد أن نقبل ألا يُنسب فضل إنجازه إلينا!"

العناق الذي طال بين الحبيبين، وشريكي الخدمة الرسولية: الأنبا رافائيل والبابا الجديد، فجّر طاقة من الفرح والتهليل بين الشعب، وأكد أن القرعة الهيكلية لم تكن "نعم" فقط للأنبا تواضروس، لكنها في نفس الوقت "نعم" أخرى تُثبت الأنبا رافائيل ليثمر حيثما زرعه الله ليخدمه.. "مياه كثيرة لا تطفئ المحبة، والسيول لا تغمرها"!

كلمة واحدة للأنبا يوسف، أسقف كاليفورنيا، ودينامو حفل التجليس: "برافو!"

 

انتهى الحفل، وكنت أتمنى أن يطول أكثر، ومثل الرسول بطرس على جبل التجلي مع الرب يسوع، وموسى وإيليا، كان قلبي يردد: "يا رب.. جيد أن نكون ههنا!" (متى ١٧: ٤).. لكن كان لابد أن ننزل من الجبل إلى واقع حياة نتطلع فيها إلى مرحلة جديدة من تاريخ شعب الله في مصر، حيث يقودنا البابا تواضروس لنعبر النهر معه إلى تخوم أوسع في حياة الإيمان التي وعد الله بأن يقود شعبه إليها.


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢٥ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٢) 

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved  .