بقلم: سامي يعقوب

       اليوم نحتفل بأحد الشعانين، ونستعد للاقتراب من العبد المتألم، ونصاحبه في رحلة أسبوع الآلام، أحد أروع الأسابيع السنوية للعبادة الشخصية والكنسيّة.. ويستمر اللقاء اليومي معه حتى نصل إلى الجلجثة في يوم الجمعة »العظيمة» (وليست الحزينة). عند الصليب نقف لنرى ضعفنا وعجزنا وعدم استحقاقنا بسبب خطيتنا.. لكن هناك برهن الله عن محبته لنا بموت المسيح الكفاري عوضًا عنا (رومية ٥ : ٦ و ٨). ومَنْ منا لا يتطلع بشوق لإشراقة نور السبت، قبل أن ينطلق هتافنا معًا بروح النصرة عند فجر أحد القيامة: «إخريستوس آنستي.. آليثوس آنستي». لكني اعتدت في مثل هذه الأيام أن أتساءل في نفسي، وأتحاور مع عائلتي وأصدقائي حول السؤال: "كيف لا يفقدنا تكرار احتفالنا بالأعياد فرصة أن نفكر فيما تعنيه لنا اليوم؟"

«أحد الشعانين» يحمل لي، مثل كثيرين، ذكريات رائعة جمعتنا حول أبي بفرح، أبناءً وأحفادًا، ليضفر لنا القلوب، وتدهشنا مهارته وهو يعلمنا تشكيل الصلبان والتيجان من السعف، التي كنا نذهب بها بفخر مع أبناء الجيران إلى الكنيسة يوم الأحد. ولاتزال نبرة صوت أبي تحرك مشاعري حتى اليوم وهو يحكي لنا من ذكريات طفولته وصباه عن هذا العيد! لقد كان مساء السبت الذي يسبق «أحد السعف» احتفالاً أسريًا يجمعنا في حب مع أبناء الجيران والأصدقاء. لكن هذا العيد لابد أن يعني لنا أكثر من مجرد الاستمتاع بأحلى الذكريات، أو ضفر القلوب للأبناء والأحفاد، وقد تبدلت الأدوار بمرور السنين والأيام!

       نحن كمسيحيين نؤمن أن نصوص العهد الجديد مُوحى بها من الـله بالروح القدس، لكن من الأمور التي لابد أن تكون واضحة في أذهاننا أن الأناجيل عندما تعرضت للتقييم كوثائق تاريخية تحكي تفاصيل حياة يسوع المسيح على الأرض، ورحلة آلامه وموته وقيامته، اجتازت كل اختبارات المصداقية بحسب المقاييس التي يستخدمها المؤرخون غير المسيحيين في إثبات صحة الأحداث. بالطبع تاريخ تسجيل الحدث يُؤخذ في الاعتبار عند إثبات صحته، لكن هذا ليس كافيًا. ما يؤكد أن الحدث التاريخي لم يكن مجرد رواية من تأليف أحد الأشخاص هو وجود تسجيل لتفاصيل نفس الحدث في أكثر من مصدر مستقل آخر، كتبه شهود عيان مختلفون كما تراءى لكل منهم، أو كما سمعوه من مصادرهم الخاصة.

       «الدخول الانتصاري» مذكور في أقدم مصدرين تاريخيين للعهد الجديد، وهما مخطوطتا إنجيلي مرقس ويوحنا. لقد عاصر البشيران الحدث، وسجل كل منهما تفاصيله من منظوره الشخصي بمعزل عما كتبه الآخر. وعندما نقارن بين النصين في مرقس ١١ ويوحنا ١٢ نجد تباينًا في وصف المظاهر التي أحاطت باليوم، واتفاقًا في جوهر القصة: «في بداية الأسبوع الأخير من حياة يسوع الناصري على الأرض، دخل إلى أورشليم راكبًا على حمار، واستقبلته جموع الشعب، الذين جاءوا إلى أورشليم للاحتفال السنوي بعيد الفصح، بهتاف مدوٍ: أوصنا! مبارك الآتي باسم الرب!" إذ كانوا ينتظرون مجيء ملكوت اللـهومع أن المؤرخين لتلك الفترة يقولون إن البشيرين متى ولوقا لم يعاينا ذلك اليوم بأنفسهما، واعتمدا بدرجة كبيرة فيما كتباه في إنجيليهما )مت ٢١، لو ١٩( على ما رواه لهما القديس مرقس؛ إلا أن مفسري الكلمة المقدسة يؤكدون أن كلاً منهما كان لديه مصادر أخرى غيره؛ مما يبرهن بحسب مقاييس مصداقية التأريخ للأحداث أن «الدخول الانتصاري» حدث بالفعل.. هذا يقوي ثقتنا في صدق الكلمة المقدسة، ويعطينا الفرصة أن نجيب بالمنطق على أسئلة الذين يشككون في صحتها

       احتفالنا بهذا العيد له أهمية خاصة ترتبط بالعلاقة الاختبارية مع المسيح.. فمَنْ تقتصر معرفتهم به فقط بقصص المعجزات التي صنعها، وبعض التعاليم التي قالها، لا يختلفون كثيرًا عن الآلاف الذين هتفوا له بحماس عندما جاء إلى أورشليم، دون أن يكون لذلك أي علاقة لقبولهم حقيقة أنه المسيّا الذي جاء لا ليخلصهم من عبودية الرومان بل ليدفع عنهم عقاب خطاياهم. لعل أقرب مثال لمَنْ يحتفلون بأحد الشعانين، ويتابعون بصوم انقطاعي صلوات البصخة، وينتظرون بشغف فرحة عيد القيامة، دون أن يرتبط كل هذا بوجود المسيح في حياتهم الشخصية وفي بيوتهم، هو حماس المشجعين الذي يهز هتافهم مدرجات الإستاد في مباراة لكرة القدم، ثم يخبو ويختفي بنهاية المباراة!

       إن ما تحمّله المسيح من آلام وموت في الأيام التالية للدخول الانتصاري قد أعد لنا الطريق إلى السماء، ورفعنا من قاع الخطية إلى المجد السماوي.. لكننا في زحمة الحياة قد ننسى أن طريق المسيح لم يبدأ من القاع بل من القمة! لقد بدأ طريقه من أعلى لأسفل.. من مجد أزلي لا يُضارع في بهائه إلى تخليه طواعية عن هذا المجد آخذًا صورة عبد، صائرًا بالتجسد شبيهًا بنا نحن البشر. وقد تواضع، وأطاع حتى الموت على الصليب؛ فرفعه الله أبوه وأعطاه اسمًا فوق كل اسم. هذا يعني لك ولي اليوم أن مَنْ يرغب في أن تتوج حياته بمجد المسيح، بالبركة والغنى الذي فيه، بالنجاح والإنجاز الذي بحسب مشيئته وبمقاييس وصاياه، لابد له من السير في نفس الطريق الذي سار فيه هو.. هذا الأسبوع يُتيح لكل مَنْ يريد فرصة قد لا تتكرر للتوبة الاختبارية، والعلاقة الحية مع المسيح. التوبة لها تأثير طويل المفعول، تأثير يطول لمدى العمر.. والتواضع أمام الصليب يفجر فينا محبة المسيح، فتؤثر فينا وفي الآخرين من حولنا. إن كنت تتساءل لماذا تفتقد لقوة الإيمان في حياتك، فالسبب هو أنك اكتفيت بالهتاف له، ولو بحماس؛ لكنك بقيت هناك مع جمع المشجعين في أورشليم، ولم تسر بعد في الطريق معه إلى الجلجثة.

وإلى اللقاء في المرة القادمة.. في الطريق إلى عمواس، لكن بعد أحد القيامة. وكل عام وأنتم بخير،،،


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢٤ أبريل/نيسان ٢٠١٦)

 

Copyright © 2016 Focus on the Family Middle East. All rights reserved