بقلم: سامي يعقوب

بقدر تلاحق أحداث الوطن، تزايدت حدة الحوارات والشد والجذب مع ابني الأصغر، ومَنْ أتواصل معهم من أصدقائه الشباب! وأعترف أنني شعرت ببعض من الاستفزاز بسبب المشاعر التي صاحبت تبادلنا للنقاش والآراء حول انتخابات الرئاسة، وردود أفعال بعض الخاسرين، واحتماليات نتائج الإعادة! وبينما انشغلنا بالحوار عن جدوى مقاطعة انتخابات الإعادة، أو النتائج المترتبة على إبطال الصوت الانتخابي، وأي موقف يجب أن يأخذه المسيحي في هذه الحالة.. إذ بالأحكام على رموز النظام السابق تسكب مزيدًا من الوقود على حواراتنا فتزيدها اشتعالاً!

إنها الفجوة بين أسلوب تفكير جيلي الأبناء والآباء.. فهم يرون أن الحراك الثوري لابد أن يستمر، ونحن بخبرة السنين نرى أن الثورة نقطة انطلاق لمستقبل أفضل وليست أسلوب حياة يوميًا.. منطقهم يرى ضرورة التخلص من كل القديم تمامًا ليبدأ كل شيء من جديد، أما نحن فنميل للاستفادة بما لم يفسد من الماضي لنبدأ منه ما يمكن أن نُصلح به الحاضر، وننطلق للمستقبل. وقد قادنا النقاش للحديث عن المفهوم الأدق للتغيير، وهل هو وسيلة أم غاية في حد ذاته، وكيف أن الطريق للوصول إليه طويل وشاق، ويتطلب الكثير من العمل الجاد والمثابرة.. عندئذ فقط بدأ كل منا يجد بعض المنطق فيما يقوله الآخر، مع أن اختلافنا حول آلية وتوقيت التغيير ظل كما هو بلا "تغيير"!

لقد كنت أظن أنني تقدمي الفكر، وثوري التوجه، حتى أدركت خطورة الدوافع الفكرية التي تولدت لدى الكثيرين من أبنائنا تحت ضغوط ما أحاط بنا خلال الثمانية عشر شهرًا الماضية من صخب أصحاب الأجندات السياسية والعقائدية.. فوجدت نفسي محافظًا في مواجهة فكر الذين استغلوا الحماس التلقائي للشباب لتحريكهم ودفعهم أحيانًا للاعتراض غير المبرر على كل شيء، والتشكيك في مصداقية كل المؤسسات التي تدعم كينونة واستمرار الدولة. أظن أن الشباب بطبيعتهم ينظرون أحيانًا إلى الأمور من خلال منظار أحادي لا يظهر من عدساته سوى بقعة واحدة من الحقيقة، بينما يحجب كل ما يحيط بها من مُعطيات أثبت التاريخ أن تجاهلها مدمر.. ولنا في ذلك مثال لما حدث في ثورة إيران ضد طغيان الشاه، والتي بدأت بحركات ثورية قاد أغلبها الشباب، وضحى الكثيرون منهم بحياتهم من أجل تغيير النظام.. والآن أين هم أولئك الثوار بعد أن تخلى عنهم من استطاعوا القفز فوق طموحاتهم واستغلال ثوريتهم بإقامة نظام ديكتاتوري ومتشدد لم يفرق كثيرًا عن سابقه؟ إذن فالأمر ليس مجرد صراع فكري بين الأجيال، لكنه أخطر بكثير.. إنه التحدي الذي يواجهنا كآباء اليوم أن نوسع إدراك أبنائنا ليروا الأمور بنظرة أشمل، لا تتجاهل خبرات التاريخ، وتخترق حواجز اختيارات الحاضر، وإن كان أحلاها مرًا، من أجل مستقبل أفضل..

من هذا الركن في "وطني" أدعو كل أب، وأشجع كل أم، أن يُبادروا بالحوار مع أبنائهم في كل ما يتعلق بالظروف التي يمر بها الوطن في هذه الأيام.. لنخلق فرصًا فيها نُعطي أولوية لنستمع إلى ما يفكرون فيه، ولنتحاور بلا خوف حول كل ما يدور داخلهم من أسئلة.. ولنستوعب بطول أناة إحساسهم بالإحباط أو الفشل لأن التغيير الذي يطمحون أن يروه يحدث في بلادنا لم يتحقق بعد بالشكل أو التوقيت الذي تمنوه. نحتاج بحكمة الآباء أن نأتي بأبنائنا إلى مقاييس الله المعلنة في الكلمة المقدسة للسلوك المسيحي في وقت الأزمات، وأن ندربهم على تمييز كل فكر في ضوء إيماننا المسيحي، ونوجههم كيف يرفضون كأبناء للنور الاشتراك في أي عمل من أعمال الظلمة التي لا تُثمر سوى الدمار والكراهية، بل بالحري يفضحونها بالالتزام الوطني الذي يُعبر عنه بإيجابية المشاركة في كل ما يبني البلاد ويفيد الناس.. فهذه هي فرصتنا لنُظهر للجميع مصداقية إيماننا الذي يُترجم لحياة معاشة.

في ظل أزمة الاختيار الضيق الذي وضعتنا فيه صناديق الانتخاب، عندما يسألك ابنك أو ابنتك: "هل هناك جدوى أن أذهب إلى صندوق انتخابات الإعادة؟ وهل صوت واحد سيصنع فرقًا في حياة أمة؟ تُرى هل أستجيب لدعوات المقاطعة أو إبطال الصوت؟" وعندما يسألونك في يأس: "هل فشلت الثورة؟ وما الأمل في المستقبل في ضوء صراع القوى الحالي؟ وماذا عن حق الشهداء، وهل من قصاص؟" لا يوجد مَنْ يستطيع أن يجيب على هذه الأسئلة مثل الرسول بولس: "فانظروا (انتبهوا جيدًا) كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء، مفتدين الوقت (مغتنمين الفرصة المتاحة لكم) لأن الأيام شريرة" (أفسس 5: 15). ومع أن القرينة المباشرة لهذه الإجابة الحكيمة تتعلق بفهم المسيحي لمشيئة الله لسلوك المؤمن في هذه الحياة، إلا أنني أعتقد أن النص في قرينته الأوسع يخاطب بشكل مباشر احتياجنا اليوم للإجابة على أسئلة أبنائنا.

ما لم نقبل نحن الآباء والأمهات مسؤولية إعداد الأبناء ليكونوا أكثر قدرة على التمييز والاختيار.. فمَنْ إذن سيقوم بهذه المهمة؟ وإذا لم ننتهز الفرصة المتاحة لنا اليوم لنمارس هذه المسؤولية الأبوية.. فمتى إذن نفعل هذا؟


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ 6 يونيو/ حزيران 2012)

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved