بقلم سامى يعقوب

أستسمحكم أن أقاطع سلسلة أحاديثي عن دور الأب في الأسرة، على أن أواصلها تباعًا من المرة القادمة.. "تُسونامي" أحداث الأسبوع الماضي، بحسب ما أسماها الكاتب الكبير حسنين هيكل، أعظم من أن يعبر علينا دون أن نتوقف أمامه بالحديث هذه المرة.

اعتدت في مثل هذا الأسبوع من كل عام أن أتوقف لأفكر في سنوات حياتي التي تمضي سريعًا.. في هذه المرة أعطت أحداث بلادي مذاقًا خاصًا لأفكاري ومشاعري؛ فامتلأت بفرح فاض داخلي، بينما وقفت أراقب كيف يحقق الله مقاصده بالكامل، وفي وقته، بالرغم من اختيارات البشر أيًا كانت.

لقد وُلدت وكبرت في عائلة تُحب الله والكنيسة.. عندما أتوقف اليوم لأفكر فيما كنت أصلي من أجله عند مقتبل العمر، وكيف كنت أطلب من الله بصدق، وأحيانًا بعند وإصرار، أن يحقق لي أمرًا ما، أجد نفسي ممتنًا لله أن استجابته لطلباتي لم تأت أبدًا بحسب ما أردت، سواء في المضمون أو التوقيت. لعلك مررت مثلي، أو أنك تعبر الآن بفترة من العمر تشعر فيها بأن الله لا يعنيه ما يحدث في حياتك، وقد بدا أنه لا يسمعك، أو غائب عن الأحداث التي تُحيط بك! على أية حال، لقد تأكدت مع السنين أنه لو كان الله قد أعطاني كل ما طلبته منه بالتحديد، وفي الوقت الذي كنت أراه الأفضل بحسب تقييمي الظاهري للأمور، لكنت اليوم من أتعس وأشقى البشر.. بالرغم من خبرتي الشخصية هذه مع إلهى، أعترف أنني لم أستطع أن أربط بينها وما كان يحدث خلال العامين الماضيين في بلادنا!!

 

تُرى ماذا كنت تطلب من الله في الأسبوع الذي سبق الانتخابات الرئاسية الأخيرة قبل حوالي عام من الآن؟ هل شعرت بغصة امتزجت بالإحباط، ولم تخل من الخوف، عندما استمعت إلى تقرير اللجنة العليا للانتخابات تعلن اسم الفائز بالمنصب؟ وهل دمعت عيناك لرؤية الآلاف في التحرير يهللون ويهتفون بحماس إيذانًا بقدوم عهد نهضة-من نوع خاص إلى مصرنا الحبيبة؟ لم يكن هذا ما كنا نتمناه أو نتوقعه.. لكنه حدث، وتطورت معه الأمور لدرجة جعلتنا نصرخ إليه أحيانًا: «ألا يهمك أننا نهلك؟» والسؤال: هل عرفت الآن لماذا كانت الاستجابة الإلهية هذه المرة: "لا"، مع أنها في الواقع كانت: "انتظر قليلاً"؟! ولأنني واحد من الذين يصارعون بطبيعتهم مع الانتظار والصبر فقد استسلمت لليأس، حتى انفتحت عيناي يوم الأربعاء الماضي لأدرك أن الله لم يكن غائبًا عنا، وقد حاول مرارًا أن يُسمعنا صوته: "انتظروا قليلا".. لكن الضجيج الذي أحاط بنا سد آذاننا، أو ربما لم نلتفت إليه لأننا اعتمدنا على قدراتنا الشخصية في تحليل الأمور، واستخلصنا نتائج مبنية على تعليلات غلبت عليها العواطف، وغاب عنها الإيمان.. «لماذا تزعم يا يعقوب، ولماذا تقول: طريقي تخفى على الرب، وحقي يجهله إلهي؟ أما عرفت؟ أما سمعت أن الرب إله سرمدي، خالق الأرض بكاملها.. لا يتعب ولا يكل أبدًا، وفهمه يعصى على الإدراك... الذين ينتظرونه تتجدد قواهم على الدوام، ويرتفعون بأجنحة كالنسور، ولا يتعبون إذا ركضوا، ويسيرون ولا يكلون.» (إشعياء ٤: ٢٧ ـ٣١  الترجمة العربية المشتركة).. بينما كنت أتأمل هذه الكلمات سمعت من يعاتبني: «يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟»

عندما خرجت مع أسرتي إلى محيط الاتحادية لأشارك أبناء بلدي، أقباطًا ومسلمين، فرحة الخروج من النفق المظلم الذي أُرغمنا على الدخول فيه، شعرت بينما كنت أتطلع في وجوه آلاف المحتفلين أني أعرفهم شخصيًا، ولو أتيحت لي الفرصة لعانقتهم جميعًا.. ما أروع كلمات سليمان الحكيم عن أبنائنا الذين حركتهم يد الله القوية، لتعبر بلادنا بنعمته أزمة العام الماضي التي أوشكت أن تعود بنا إلى عصور الجهل والظلمة: «كسهام بيد جبار، هكذا أبناء الشبيبة.. طوبى (هنيئًا) للذي ملأ جعبته منهم. لا يخزون بل يكلمون الأعداء في الباب» (مزمور ١٢٧ : ٤-٥ ). وبالمناسبة نجد في سفر الأمثال وصفًا لبعض من كان لهم دور في الأحداث، والمعنى واضح لكل لبيبٍ بالإشارة يفهم: «قبل الكسر (الخيبة) الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح» (١٦ : ١٨). «مثل العصفور التائه من عُشه، هكذا الرجل التائه من مكانه!» (٢٧ : ٨). «تحت ثلاثة تضطرب الأرض، وأربعة لا تستطيع احتمالها: تحت عبد إذا ملك، وأحمق إذا شبع خبزًا، تحت شنيعة إذا تزوجت، وأَمَة إذا ورثت سيدتها!» (٣٠ : ٢١ ـ ٢٣).

 عندما ننظر للأمام لاشك أننا نعجز عن أن نرى الخط الذي يربط بين تحديات ومواقف الأيام.. لكن عندما ننظر للخلف ندرك أن الذي قادنا في الطريق بين نقطة وأخرى في العمر هو الإله القدير، وقد فعل هذا بحكمة يصعب على العقل البشري أن يستوعبها. ولعل ما يعمق عجزنا عن أن نفهم لماذا يريدنا الله أن ننتظره ليحقق مقاصده بأسلوبه وفي وقته، هو رغبتنا أن تُحل الأزمات بالمعجزات.. نحن نعبد الله ليس لأنه يلبي لنا مطالبنا، لكن لأننا نثق في حضوره في حياتنا، وأنه هو في النهاية الذي يحدد الطريقة والوقت اللذين سيتدخل بهما على المستوى الشخصي، ويُعيد حلاوة بلادنا إلينا.

 

نحن لا نستطيع أن نرى المستقبل، ولا أن نعرف تفاصيل خطة الله لكل ما سيحدث فيه، بل كل ما نراه هو ظل للصورة الأكبر التي يريدها الله لحياتنا ولمصرنا.. إنه يقصد أن يكشف عن أحداث المستقبل رويدًا رويدًا؛ فلو رُفع الستار مرة واحدة ربما ما كنا نجرؤ على خوض تجارب الأيام، ولضعُف بالتأكيد اتكالنا عليه. لذلك في ظل محدوديتنا هذه، من الكبرياء أن نُملي عليه ما يجب أن يعمله، كما فعلنا مرات خلال العامين الماضيين. أما تحدي الإيمان أمامنا اليوم كمصريين أقباطًا ومسلمين، أن نسلم حياتنا، وأبناءنا، وأوطاننا، ومستقبلنا بالكامل لمشيئته الإلهية الصالحة، وندعه يحدد لنا ما هو الأفضل.. أيام حياتنا سبعون سنة أو ثمانون إذا كنا أقوياء، أفخرها تعب وبلية! (مزمور٩٠: ١٠).. أي فخر في التعب، وأي زهو في البلية؟ فخر المعية والحضور الإلهي ليسدد احتياجاتنا في أيام الجهاد والعناء، وزهو اختبار الأذرع الأبدية تمتد لتنقذنا من كل بلية تصيب حياتنا وبلادنا.

وألف مبروك لمصرنا الحبيبة.. 


  )نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٧ يوليو/ تموز ٢٠١٣)

Copyright © 2013 Focus on the Family Middle East. All rights reserved