Submit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

بقلم: سامي يعقوب

         ”هناك أناس يبدون من الضعف ظاهريًا لدرجة أن لمسة أصبع يمكن أن تطرحهم أرضًا، لكن جيشًا جرارًا لا يستطيع أن يحركهم بوصة واحدة عما يؤمنون به!“ تذكرت هذا القول الذي كتبه مصطفى أمين في عموده «فكرة» بأخبار اليوم منذ حوالي أربعين عامًا، بينما كنت أتابع في الأسبوع الماضي أخبار امرأة من قائمة أولئك العمالقة الذين تصفهم هذه المقولة الرائعة: «كيم ديفيز»، رئيسة بلدية مقاطعة «راوان» بولاية كنتاكي الأمريكية.. سيدة شجاعة، اختارت أن تتمسك بما تؤمن به كإنسانة مسيحية في مواجهة طغيان ما أُقر بقوة القانون كأحد «حقوق الإنسان»، وإن لم يتفق بأي حال مع الحق الإلهي الذي تؤمن به، ولا حتى مع ميراث الأخلاق الذي قامت عليه حضارة بلادها!

         في صباح يوم الجمعة قبل الماضي، شهدت «كيم» عن إيمانها أمام العالم برفضها طلب رجلين من المثليين تسجيل زواجهما مدنيًا.. وأمام الحشد الإعلامي الذي تجمع خارج مكتب البلدية ناشدت بثبات، لكن بلا جدوى، المحكمة الأمريكية العليا، التي أجازت قانونية اتحاد شخصين من جنس واحد بالزواج، أن تجنبها إصدار مثل هذا الترخيص لأنه لا يتفق مع عقيدتها الدينية. وقامت الدنيا ولم تقعد، وبالطبع كان لابد أن تقف محبوسة قيد المحاكمة أمام أحد القضاة الفيدراليين للولاية، والذي خيّرها بين أن توافق على إصدار ترخيص الزواج المطلوب أو مواجهة تهمة ازدراء الحقوق المدنية لبعض المواطنين. لكنها رفضت بإصرار؛ مؤكدة أن أي ترخيص من هذا النوع لا يساوي حتى قيمة الورق المكتوب عليه.. بالمناسبة الأمريكان كمان عندهم تهمة «ازدراء»، بس مش «ازدراء أديان» زي إللي عندنا.. لكن »ازدراء« حرية أن يعتقد الآخر بما يشاء!

         وخارج بوابة السجن الذي حُجزت فيه، وقف محاميها ليعلن في مؤتمر صحفي تابعه الملايين، أن »كيم ديفيز« سجينة من أجل ضميرها الحي، لكنها تتمتع بروح عالية! ثم حكى أنها اعتادت لسنين أن تذهب للخدمة الروحية في سجن محلي آخر، تقود فيه أسبوعيًا درسًا للكتاب المقدس مع مجموعة من السجينات، لكنها لم تتخيل أبدًا أن تكون هي نفسها وراء القضبان في يوم من الأيام. وبعد خمس ليالٍ قضتها »كيم« في السجن أُفرج عنها يوم الثلاثاء الماضي، وخرجت ليستقبلها هدير من تصفيق وهتاف الآلاف الذين جاءوا لدعمها، وليعبروا أيضًا عن أن إجبار مسؤول مسيحي على توثيق زواج المثليين مدنيًا أو دينيًا ينتهك حرية إيمانهم المسيحي بأن الزواج هو علاقة تربط رجلاً واحدًا بامرأة واحدة، ولا يفرق بينهما سوى الموت. وخاطبت»كيم« الجموع الذين كانو يلوحون بالصلبان البيضاء، بينما كانت الدموع تنهمر من عينيها قائلة: ”لا أريد سوى أن أعطي المجد للـه! لقد احتشدتم هنا لتشهدوا للحق كشعب للرب.. نحن أقوياء، ولابد أن نستمر في الدفاع عما نؤمن به.. فلا تخذلوه لأنه هو معنا!“

         لم تكن »كيم ديفيز« الوحيدة من بين العديد من رؤساء البلديات الذين رفضوا تسجيل اتحاد المثليين كزواج شرعي لأنه يتعارض مع إيمانهم المسيحي، وفضلوا الاستقالة عن المواجهة؛ لكنها كانت الوحيدة التي لم تترك منصبها، ووقفت بمفردها ترفض الباطل، ولو اكتسب صفة قانونية، بإعلان الحق.. تُرى هل ستعود «كيم» لوظيفتها أم ستخسرها؟ لا أحد يعرف بعد. لكن محاميها أجاب على هذا السؤال بأنها لن تفعل ما يخالف ما تؤمن به أيًا كانت تكلفة موقفها هذا!

 »كيم« مجرد موظفة مسيحية مغمورة من بين ملايين العاملين في الحكومة، لكنها عندما وقفت بلا خوف للدفاع عن إيمانها استطاعت أن تشهد للحق من موقع عملها، بقوة تفوق في تأثيرها آلاف العظات التي تُلقى كل أسبوع داخل جدران الكنائس! هنا يجدر بي أن أعود لقصة الرجل الذي آمن بالمسيح ولم يُفصح في البداية عن إيمانه، لكن النهاية كانت أروع ما ذكره الوحي عن تأثير ما فعله عندما تجاسر وأعلن على الملأ ارتباط هُويته بالمصلوب (لوقا ٢٣: ٥٠ - ٥٦). نحن لا نعرف الكثير عن يوسف الرامي، عضو مجلس السنهدريم، سوى أنه كان رجلاً صالحًا وبارًا، وأنه كان كان تلميذًا ليسوع في السر خوفًا من اليهود (يوحنا ١٩ : ٣٨).. وخوفه هذا جعله لا يأخذ موقفًا شجاعًا ليدافع عن المسيح عندما قرر المجلس اليهودي إدانة يسوع، والحكم بموته. لكنه استجمع شجاعته فيما بعد (مرقس ١٥ : ٤٣)، ودخل إلى بيلاطس، وطلب جسد يسوع ليدفنه.. وما لم يكن قد فعل ذلك، فأغلب الظن كان الجسد سيُلقى على أكوام القمامة ليحرق، كما اعتاد اليهود أن يفعلوا مع مَنْ يعدمون في تلك الأيام، ولفقدنا بذلك أحد أهم براهين إيماننا بقيامة المسيح.. ألا وهو القبر الفارغ.

         لم يكن لدى يوسف الرامي ما سيربحه من إعلان حقيقة ارتباطه بيسوع الذي مات، ولم يتوقع أحد آنذاك قيامته. في الواقع، لقد كان يعرف أنه سيخسر عضويته في السنهدريم، وبالتالي يفقد مركزه الاجتماعي كأحد قادة اليهود.. ربما كان الأسهل عليه أن يكتفي بمشاعر الأسف بسبب ما حدث مع يسوع، ولا يفعل أي شيء يضايق أحدًا منه، أو يعرضه لسخرية الناس منه. على العكس، وبالرغم من كل تلك المحاذير والمخاطر، بادر بالدخول إلى بيلاطس، وطلب منه ما كان يمكن أن يواجه بالرفض، ثم ذهب وأنزل جسد يسوع من على الصليب، وتحمل تكلفة تكفينه، ومشقة دفنه.. فأعطانا مثالاً خالدًا لما يريدنا اللـه أن نفعله بينما نعيش في العالم اليوم.

 »في العالم سيكون لكم ضيق«.. قد يعني هذا بشكل أو آخر أن ظروف العمل أو الجيرة قد تضطرنا أحيانًا أن نواجه هجومًا على مسيحيتنا، أو سخرية مما نؤمن به.. فهل نصمت إيثارًا للسلامة؟ أو نضحك مجاملة لنكات غير بريئة تمس عقيدتنا حتى لا نخسر صفقة تجارية؟ تُرى هل إخفاء ما يكشف عن هُويتنا الدينية يضمن إنجاز المهام في المصالح بدون تعقيد أو تأخير؟ وهل من الدبلوماسية أو الأدب أن نمتنع عن المشاركة بقناعاتنا الإيمانية عندما نشترك في حوار حول أمور الحياة، خوفًا مما قد يظنونه فينا، أو يتهموننا به؟! هل أنت مستعد لأن تدفع تكلفة جسارة إعلان ارتباطك بيسوع المسيح ربًا ومخلصًا، كما فعل يوسف الرامي في القديم، وفعلت »كيم ديفيز« الأسبوع الماضي؟ لدي الكثير الذي أريد أن أشارك به، لكن المساحة لا تسمح.. لكني أردت فقط أن أثير هذه الأسئلة لتجيب عليها في حوار بينك وبين إلهك.. «لكن ما كان لي ربحًا، فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل (الربح الأعظم) معرفة المسيح يسوع ربي» (فيلبي ٣: ٧ و ٨).


نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١٣ سبتمبر/ آيلول ٢٠١٥

Copyright © 2015 Focus on theFamily Middle East. All rights reserved.