Submit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

 

بقلم: سامي يعقوب

    قرأت أسطورة أعجبتني تحكي أنه عندما بدأ الله في خلق المرأة، وكان ذلك قرب نهاية اليوم السادس من أيام الخليقة، أن ملاكًا يعمل في خدمته تَقدّم إليه وقال: ”يا سيدي.. أراك مهتمًا بتشكيل هذا المخلوق بتفاصيل كثيرة يبدو أغلبها أنه ليس بالأهمية التي تجعلك تعمل حتى هذا الوقت المتأخر من اليوم!“ فسأله الخالق: ”هل قرأت جيدًا المواصفات التي يجب توافرها في هذه المخلوقة؟ لابد أن يكون جسمها غير قابل للذوبان، دون أن يدخل في تركيبه «البلاستيك».. وأن يحتوي على أكثر من مائتي جزء متحرك تعمل معًا في تناسق معقد، ولا يمكن اختزال واحدة منها. إفطارها في الصباح كوب من الشاي بسكر قليل، ويكفيها بقايا طعام الأبناء لتشبع خلال النهار.. لديها حضن دافئ يمكن أن يضم ثلاثة أبناء في وقت واحد، مع أن حجمها يبدو صغيرًا بالمقارنة عندما تقف بجوارهم.. قُبلتها من نوع خاص تشفي أي شيء سواء كان خدشًا بسيطًا أصاب ركبة الصغير وهو يلعب، أو جرحًا عميقًا في قلب الكبير بسبب قصة حب لم يكتب لها النجاح.. ولها ستة أزواج من الأيدي!“
 

    نظر الملاك إلى الخالق في دهشة، وهز رأسه ببطء، وقال: ”ستة أزواج من الأيدي؟ هذا مستحيل!“  فأجابه الرب:  “أنا لا أقصد الكم، بل القدرة على العمل بيدين وكأنهما اثنا عشر يدًا!! ليس هذا فقط.. فسأعطيها أيضًا ثلاثة أزواج من الأعين!“ تحير الملاك، واستمر يسأل: ”هل ستوجد هذه المواصفات القياسية في كل واحدة منهن؟“ فشرح الرب له: ”نعم.. بعينين ترى ما يحدث وراء أي باب مغلق عندما تسأل طفلها: «بتعمل إيه عندك؟» وهي تعرف بالضبط ما يعمله! وبعينين أخرتين في مؤخرة رأسها، لترى بهما ما تحتاج أن تعرفه عن أبنائها، وإن ظنوا هم أنها لا تستطيع ذلك. أما العينان اللتان في مقدمة وجهها فتؤكد بنظرة منهما محبتها، وبالطبع تفهمها لهم بدون أن تنطق كلمة من فمها!“
 

    حاول الملاك أن يقنع الخالق أن يكتفي بهذا القدر من العمل، وأن يكمل ما بدأه في اليوم التالي، لكن الرب قاطعه قائلاً: ”أنا على وشك أن أنتهي من وضع اللمسات الأخيرة في هذه المخلوقة القريبة من قلبي.. فقط بقي أن أعطيها قدرة عجيبه أن تشفي نفسها عندما تمرض فلا تذهب إلى الطبيب إلا نادرًا، وأن تطعم أبناءها الثمانية بوجبة شهية، ولو بكيلوجرام واحد من اللحم! وأن تقنعهم أن يدخلوا تحت «الدُش» بالرغم من برودة الحمام في أيام الشتاء!“ اقترب الملاك من المرأة ليفحصها، وقال للخالق: "لقد صنعتها رقيقة ولينة!" فوافقه الرب وقال: "لكني جعلتها أيضًا متينة البنية.. أنت لا تتخيل ما يمكن لهذه المخلوقة أن تحتمله أو تنجزه.. الأبناء عاوزين أب سعيد وأم حديد!".. ”هل سيمكنها أن تفكر؟“.. ”لن تستطيع أن تفكر فقط؛ بل أن تعلل وجهة نظرها عند التفاوض!“ عندئذ لاحظ الملاك شيئًا يسيل على وجنتي المرأة، فاقترب منها ولمس وجهها بأصبعه وقال: “عفوًا يا سيدي.. يبدو أن شيئًا يتسرب هنا، ويحتاج لإصلاح.. لعل السبب وراء هذا أنك تريد أن تضع مواصفات أكثر من اللازم في هذا النموذج!“ فقال الرب للملاك وهو يبتسم: ”هذا ليس تسربًا.. هذه دموع!“ فسأل الملاك: ”وما لزوم هذه الدموع؟“ فأجابه الرب: ”الدموع هي طريقتها في التعبير دائمًا عن فرحها، وأحيانًا عن أسفها وإحباطها.. عن ألمها وحزنها، وعن رضائها وفخرها أيضًا!“ شعر الملاك بالانبهار، وقال للرب: ”لقد صنعت هذه المخلوقة بعبقرية تفوق الفهم والإدراك!“    
       

    تذكرت هذه الأسطورة، وتأملت مجددًا فيما تتضمنه من معان عندما كنت أفكر في أمي التي تركت العالم الحاضر، ودخلت إلى محضر الرب في مثل هذه الأيام من عدة سنوات.. واليوم أنظر إلى الوراء، وأراها مثل أغلب أمهات الدنيا.. نموذجًا معاصرًا لبطولة غير مرئية لكنها عظيمة. ربما لم تنل أمي التقدير الذي تستحقه بحسب المقاييس الأرضية، لكن قصة كفاحها وتضحيتها من أجل أن تربي أبناءها بإصرار وإيمان في مواجهة تحديات الخمسينات والستينات من القرن الماضي يمكن أن يُكتب عنه ما يملأ أرفف مكتبة كبيرة.. مثل أغلب أمهات جيلها، ليس قليلا أن تستحق أمهاتنا أن نضع على رأس كل منهن تاجًا مرصعًا بالجواهر الثمينة، وإن فاتهن التتويج الأرضي، فإكليل المجد الذي لا يبلى ينتظرهن في الحياة الأبدية!
 

    أمي أكثر مَن أثر في حياتي، وبدونها لم أكن أبدًا ما أنا عليه الآن! قادتني لأثبت في الإيمان بالرب يسوع، وأنتمي لكنيسته. علمتني كيف أتحمل المشقات دون أن أتخلى عن الاستقامة، وكيف يمكن أن أستمتع بوفرة الحياة لكن بالقليل. معها عرفت أن الاكتفاء يعني تسديد الاحتياج، أما الرضا فهو الخطوة الأعمق؛ لأنه يعني الفرح بنعمة ما يكفي وإن لم يفضل عنه شيء! علمتني أمي مع أخوتي قيمة وتأثير الترابط الأسري بتقديسها لعهد زواجها من أبي حتى فرقهما الموت.. وبحكمتها جسدت عمليًا المثل القائل: "المنازل تُبنى بالطوب والحجارة، أما البيوت فتبنى بالحب وحده!" وعندما تَقدّم العمر بها علمتني أن الشيبة والشيخوخة لا يعنيان أن نفقد الأمل في الحياة، بل لابد أن يزيدا من إصرارنا على أن نعيش للرب كل الأيام التي يستودعنا إياها، ونكون مستعدين للقائه عندما يحين موعد اللقاء معه صغارًا كنا أو كبارًا.
 

    عندما أتذكر أمي التي عبرت قبلنا إلى الجانب الآخر من الحياة لا أحزن لفراقها، بل أستمتع بأن أحكي لابنيّ ولأصدقائي عن نموذج حياتها الذي تميز بمزيج فريد من الشكر والبساطة، وبفيض من الحب غير المشروط والتواضع.. لعل ما أحكيه عن أسلوب معيشتها الخلاق يكون مصدر إلهام لهم؛ ليثمروا حيثما يوجدون. 

    ”لو قُدر لي أن أختار أمًا.. سأختار أمي التي ولدتني وربتني أن تكون أمي!  “


      (نُشر بجريدة وطني بتاريخ 10 مايو/ آيار 2015)

Copyright © 2015 Focus on the Family Middle East. All rights reserved

 

 

 

 

 

 

 

قصة الرب يسوع في كل الكتاب المقدس بالطول