Submit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

طيف نسميه الحنين 

بقلم: سامي يعقوب

       «الأم» كلمة صغيرة من حروف قليلة، لكنّها تحتوي على أكبر المعاني في الوجود.. معانٍ أوجزها الشاعر جبران خليل جبران في بلاغة، عندما كتب في وصفها يقول: «هي كلّ شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، وهي الرجاء في اليأس، والقوة في الضعف.. هي ينبوع الحنو والرأفة، وهي الشفقة والغفران. الذي يفقد أمه يفقد صدرًا يسند إليه رأسه، ويدًا تباركه، وعينًا تحرسه.»

       من بين سيل الإعلانات، التي يزعج تكرارها الممل متابعي البرامج التليفزيونية، إعلان تحرك كلماته مشاعر قلبي، مع أنه يهدف للترويج التجاري: ”لولا أنتِ ما كنت أنا.. لولا أنتِ ما كنت هنا!“

       لقد باركني الله بأم أشعر بالسعادة والفخر في كل مرة أتحدث عنها، ولاتزال ذكرياتي معها تمدني بشجاعة لأواجه تحديات اليوم، وتملأني برجاء لأختبر أمانة الله في الغد. لقد ساعدتني أمي أن أصنع أهم اختيارات حياتي، وشجعتني أن أحلم للمستقبل برجاء وثقة. معها تعلمت أن الحياة تكون بلا معنى إذا خلت من هدف أعيش من أجله.. وكيف لا، وأمي من جيل الأمهات اللاتي سلبن الموت قوته عندما عشن من أجل الآخرين في إنكار فريد للذات. لم يكن لأي من مسرات العالم موضع اهتمام لديها؛ فمسرتها كانت سلامة أبنائها ونجاحهم! لم أسمعها مرة تتكلم بغير حنو مع الآخرين، أو تشكو لأحد من حال الدنيا، حتى في أصعب الظروف.

        لقد عاشت أمي بيننا كشمعة منيرة، لم تحترق أو يخبُ نورها حتى آخر يوم في حياتها؛ فلم يخيّم الظلام على بيتنا أبدًا. لقد تعلمت مما لم يخرج من فمها ربما أكثر مما قالته من كلمات. لن أنسى ما حييت صلاتها من أجلي، ومن أجل أبنائي. ولأن الماضي والحاضر والمستقبل هم من سمات الحياة تحت الشمس، والزمن بمعناه البشري لا يوجد لدى الخالق اللازمني؛ أعرف أن تأثير صلاة إيمانها ممتد وسيتبعنا إلى منتهى الأيام. لقد كانت طِيبة أبي أعلى من قمم الجبال، وفي المقابل كانت محبة أمي أوسع من البحار، وأعمق من المحيطات!

 

       لا أقصد بهذه المشاركة الشخصية المبالغة في مدح أمي أو أبي، مع أنهما يستحقان أكثر من ذلك بكثير.. فأنا أعرف عن يقين أن أغلبنا لديه الكثير ليحكيه عن بطولة أمه، وكفاح وإخلاص أبيه. ولعل العامل المشترك بين كل ما يمكن أن نحكيه عنهما هو الحب الذي غمرانا به بلا شروط، وبتدفق لم يضعف عبر السنين.. حب الوالدين يبقى مصدرًا للإلهام يُضيء أيامنا، حتى وإن غاب أصحابه عنا بالجسد.. حب لا تضاهيه أية مشاعر أخرى يمكن للواحد منا أن يختبرها طوال رحلة عمره. لكني أريد في مناسبة هذا الأسبوع أن أخاطب الأبناء الذين يحبون والديهم، لكن من على بعد، يعني «حب بالريموت كونترول».. أريد أن أناديهم، أو بالأحرى أحذرهم من ألا ينتظروا المناسبات ليسرعوا لأمهم بهدية قد لا تعني لها شيئًا؛ أو يمنّوا عليها باتصال تليفوني قصير، يلحقه اعتذار عن عدم التمكن من الحضور إليها لسبب قهري، وينتهي الكلام بوعد بلقاء عن قريب!

      لن أنسى ما حييت ما حكاه لي يومًا شيخ تجاوز السبعين من العمر عن تقصيره مع أمه التي كانت قد ماتت منذ زمن طويل.. وقد حُفرت في ذاكرتي كلمات أمه ترجوه: ”يا ابني لا تحرمني من أن أراك، ولو للحظات!“ لكن صديقي الشيخ عندما كان شابًا في مقتبل العمر لم يكن لديه متسع من الوقت ليشبع شوق أمه أن تراه من حين لآخر! وأتى يوم وذهب آخر وهو مشغول في عمله وأسفاره.. في التزامات الخدمة، وارتباطاته مع أصدقائه. ومضت الحياة سريعًا، واستيقظ صديقي الشيخ في أحد الأيام وقد انسحبت أمه من الحياة بدون استئذان.. ولما اضطر هو أخيرًا أن يذهب ليراها، لم تستطع هي أن تراه!

      لو أن أمك مثلما كانت أمي، ثق أنها لا تريد منك هدية اليوم، ولا في أي يوم.. إنها تريدك أنت.. تريد أن تراك!

      تظل الوصية التي كتبها الله بيده على لوحي الشريعة مقياسًا أبديًا لأحد أهم قيم الحياة التي تعطي لنجاحنا في أي علاقة، أو أي شيء ننجزه في أيام عمرنا، معنى خاصًا لا يعرفه إلا مَنْ اختبره أو افتقده: «أكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك، لكي تطول أيامك، ولكي يكون لك خير على الأرض التي يعطيك الرب إلهك» (تثنية ٥: ١٦).

      أعود من وقت لآخر إلى قصيدة للرائع فاروق جويدة، كتبها عن أمه بعد أن مضت من هذه الدنيا، يقول:

في الركن يبدو وجه أمي

لا أراه لأنه

سكن الجوانح من سنين

فالعين إن غفلت قليلاً لا ترى

لكن من سكن الجوانح لا يغيب

وإن توارى.. مثل كل الغائبين

يبدو أمامي وجه أمي كلما

اشتدت رياح الحزن.. وارتعد الجبين

الناس ترحل في العيون وتختفي

وتصير حزنـًا في الضلوع

ورجفة في القلب تخفق.. كل حين

لكنها أمي

يمر العمر أسكنـها.. وتسكنني

وتبدو كالظلال تطوف خافتة

على القلب الحزين

منذ انشطرنا والمدى حولي يضيق

وكل شيء بعدها.. عمر ضنين

صارت مع الأيام طيفـًا

لا يغيب.. ولا يبين

طيفـًا نسميه الحنين..

      

       تُرى هل تعني لك هذه الكلمات شيئًا؟ لماذا تنتظر «عيد الأم» لتخبر أمك عن مدى حبك وتقديرك لها؟ لماذا تأخذك الدنيا عنها، فتحرمها حتى من رؤياك؟ أسرع إليها كلما استطعت قبل أن تصبح طيفًا اسمه الحنين.

 


 (نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢٤ مارس/آذار ٢٠١٩)

 

Copyright © 2019 Focus on the Family Middle East. All rights reserved.

 

 

 

 

 

 

 

قصة الرب يسوع في كل الكتاب المقدس بالطول