بقلم: سامي يعقوب

لا يمكن أن نلتقي اليوم في هذا الركن بمعزل عما يجري من أحداث  مؤلمة وفوضى يبدو أنها تجر بلادنا إلى مجهول مُخيف.. من أين جاء هذا الكم من العنف والعدوانية؟ لماذا انقلب المصري على أخيه فقتله؟ لماذا التخريب، والتدمير بحرائق المولوتوف؟ لماذا أصبح الأخوة أعداءً؟ لماذا نُتهم بالخيانة ونحن أبرياء، بالكفر ونحن نؤمن بإله السماء؟ هل أرهقتك كثرة «لماذا»، وأظلمت الدنيا في وجهك؛ فكدت تظن أن الله الذي نعبده قد تخلى عن وعده لشعبنا بأن يكون مباركًا؟ هل تهتز في أعماقك بالخوف عندما تسمع مَنْ يتوعدنا بالانتقام، وكأن مصيرنا أصبح بيد المخلوق لا الخالق؟
إذا أزعجتك مثل هذه الأسئلة بشكل أو آخر خلال الأيام الماضية، فأنت لست وحدك؛ فلم يخلُ بيت أو لقاء مع أصدقاء من حديث تسبق تساؤلاته كلمة «لماذا»، يعقبها عدد ليس بقليل من علامات الاستفهام.. على أية حال هذا طبيعي؛ فنحن في النهاية بشر، في ضعفنا نفقد الرجاء أحيانًا، ونشعر بالعجز عندما لا نجد إجابة لكلمة «لماذا» التي تطاردنا. الخطر هنا أن إبليس عدو الخير لا يتركنا لحالنا في مثل هذه الأوقات.. فمن عادته أن ينتهز كل فرصة نشعر فيها بخيبة الأمل ليأخذنا بعيدًا عن الله، ويحاول بخبث أن يسرب إلى قلوبنا فكرًا يقنعنا به أن إلهنا الذي نعبده لم يعد يهتم لأمرنا، وأن ما يمكن أن يُصيبنا من أذى ربما أراده أن يكون عقابًا لنا بسبب شرور الماضي أو الحاضر!!! ومتى نجح عدو الخير أن يقيم حوارًا معنا سيلقي ببذور الشك والمرارة تجاه الله داخل عقولنا، فتفتر عزيمة إيماننا؛ وبدلاً من أن نلتجىء إليه  لنتمسك به كمرساة لنجاتنا عندما تعلو الأمواج فوق رؤوسنا، ندير له ظهورنا، فنغرق في بحور اليأس! تُرى أين يمكن أن نجد الرجاء اليوم؟ وإلى مَنْ نذهب مع أبنائنا لنجدد ثقتنا في شخص الله المحب، القدير الذي وعد، والأمين الذي يفي بوعده؟

 

 لقد وجدت نفسي في الأيام القليلة الماضية مستغرقًا في التفكير في أحد أقوى الأحاديث الإلهية التي سجلها النبي إشعياء في السفر المعروف باسمه، في فترة كانت من أصعب مراحل تاريخ شعب الله في العهد القديم. والنبوات مع أنها خاطبت أحداثَا عايشها الناس في زمانها، إلا أننا نستطيع أن نجد فيها ما يشجعنا لنواجه بثبات ما قد نختبره كأفراد وككنيسة في أيامنا هذه. لقد جاء إشعياء برسالة الله إلى الناس وهم مسبيون في بلاد الأعداء، الذين دمروا بلادهم، وحرقوا أبواب الهيكل حيث كانوا يعبدون الله، بعد أن نهبوا كل ما كان فيه من كنوز. وهناك في الغربة، بعيدًا عن أورشليم مدينة عشقهم، أحاطهم الأعداء بعبادة الأوثان، وحاولوا بكل السبل والوسائل أن يحطموا كل رجاء لهم في النجاة والعودة إلى بلادهم لينتظروا مجيء المسيّا المخلص. لقد خاطب الله شعبه في ذلك الوقت ليجدد فيهم الرجاء الذي كاد أن يندثر، وليؤكد أنه ضابط الكل، ومسيطر على كل الأمور، وأنه بقدرته وحكمته سيحفظهم من الهلاك مهما بدا طغيان البابليين عفيًا لا يقاوم.. فهو وحده الذي يستطيع أن يُخرج من أصعب الظروف ما لا يتوقعه البشر مقاومين كانوا أو مؤمنين!

 

يبدأ الحديث الإلهي للشعب في الأصحاح الرابع والخمسين من سفر إشعياء بدعوة للترنم (عدد ١)!  لكن هل يمكننا أن نترنم  ونحن نعاني الضيق، ويحيط بنا الخوف؟ لعل ما جاء في مزمور ١٣٧: ١- ٤ يعطينا فكرة عما كان يشعر به الشعب في ذلك الوقت: «على أنهار بابل هناك جلسنا. بكينا أيضًا عندما تذكرنا أورشليم. على (شجر) الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا. لأنه هناك سألنا (طلب منا) الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحًا (أن نفرحهم) قائلين: رنموا لنا من ترنيمات أورشليم.. كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة.» لكن إشعياء يقول للكنيسة ترنمي في وقت الضيق.. ترى ما الذي يشجعني لأترنم؟ ترنمي لأنه بالرغم من الضيق والتهديد ستمتدين يمينًا ويسارًا.. لا تخافي  لأنك لن تخزي، ولا تخجلي حتى إذا عايروك لأنه لن يلحق بك عار. ترنمي لأنه يوجد رجاء في الله صانعك، الله الذي يحبك كما يحب الرجل زوجته.. ترنمي لأن ربك اسمه القدير، والقدوس هو فاديك (قراءة شخصية للأعداد ٣ - ٥). ربما ليس المقصود بالترنم هنا هو تسبيحات وألحان العبادة فقط، بل بالأحرى إعلان الرجاء فى إلهنا حيثما نوجد كمسيحيين في مجتمع  يمزقه العنف وروح الانتقام.. الترنم ليس مجرد كلمات تخرج من أفواهنا بحماس؛ فهذه لا يسمعها الذين يعذبوننا فنفرحهم -كما يقول كاتب المزمور، بل هو نشيد حياتنا اليومية الذي يصنع فرقًا، ربما بالصمت أكثر من الكلام، فيؤثر بالمحبة العاملة في جيراننا الذين نعيش في وسطهم، وزملاء الدراسة أو العمل الذين نشاركهم الوطن والمصير، دون أن يفرق بيننا عقيدة في القلب أو طقس عبادة في مسجد أو كنيسة.

إن رجاء الكنيسة عبر التاريخ، سواء في أوقات الرحب أو عصور الاضطهاد، كان ولايزال يستمد قوته وتأثيره وسط مجريات الأحداث من الثقة بأن ما يمكن أن يفعله البشر يستحيل بأي حال أن يوقف خطة الله، أو يبطل سلطانه فوق قدرة أعتى الأمم..  فأين بابل اليوم التي ظنت أنها بالسبي ستقضي على شعب الله؟! وقد عبّر إشعياء عن هذا اليقين الحي في العدد العاشر بإعلان إلهي لا مثيل له في القوة والوضوح: «فإن الجبال تزول، والآكام تتزعزع.. أما إحساني فلا يزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمك الرب.» الجبال تتحرك أحيانًا بالزلازل، فتنهار صخورها وتسقط من أعلى، والتلال هي أيضًا تهتز عندما تتحرك قشرة الأرض الداخلية تحتها. المقارنة هنا تجعل المقصود بهذا الوعد لا يحتاج لشرح.. فالخالق كُلي القدرة -والذي تتحرك الجبال الجبارة التي صنعتها يداه، وثبتها في الطبيعة بقدرته- يؤكد لكنيسته وشعبه أن إحسانه سيستمر معنا إلى الأبد. وكلمة «إحساني» في الأصل العبري للنص جاءت بمعنى «رأفتي»، وهي كلمة تصف تحرك قلب الأب بالمشاعر نحو ابن يواجه خطرًا فيسمعه يناديه طلبًا للنجدة: «يا أبي»، فيسرع ويمد يده لينقذه! كذلك إذا تحركت الجبال فإن تعهده بسلامتنا لا يعتمد على حالتنا الروحية.. فهذا الوعد أعطي للشعب بينما كانوا مبتعدين عنه، والتزم الرب بهذا العهد الذي قطعه مع نفسه من أجل استمرار بقاء شعبه في الوجود بالرغم من كل الشر الذي كان في قدرة بابل أن تفعله.. على الله توكلت فلا أخاف، ماذا يصنعه بي الإنسان (مزمور ٥٦: ١١).. من إحسان  الرب علينا أن مراحمه لا تزول، ومع إشراقة شمس كل يوم جديد يتجدد لنا عهد سلامه.

يدهشني، وأعتقد أنه يُثير استغرابنا ككنيسة وطنية تعود تسميتنا كأقباط إلى ما كان يسمى به أهل مصر قبل دخول الإسلام إليها، أن يُنسب  إلينا زورًا أننا وراء عمليات العنف والتخريب التي سادت البلاد مؤخرًا.. لم أجد ما يمكن أن يوجه حوار غرفة المعيشة في بيتي حول هذا الافتراء أفضل ما ختم به النبي إشعياء رسالة الرب إلى كنيسته في عدد ١٧: "كل آلة صورت ضدك لا تنجح، وكل لسان يقوم عليك (يتهمك) في القضاء تحكمين عليه (تفحمينه).. هذا هو ميراث عبيد الرب وبرهم من عندي (الذي أنعم به عليهم) يقول الرب."

نحن نترنم وسط مخاوف هذه الأيام لأنه يوجد لنا رجاء.. نحن نترنم بالرغم من المجهول المقبلين عليه لأن لنا ضمانًا في مستقبل عظيم معه عبر نهر هذه الحياة.. ويمكننا أن نفرح في وسط الضيق وقسوة الظروف لثقتنا أن عهد الله لنا ككنيسة لم ولن يزول. قد تكون الرحلة شاقة ومؤلمة، ومضمار سباق الجهاد الممتد أمامنا طويلاً، لكننا متأكدون أن الذي سبقنا فيه، متحملاً الموت صلبًا، غير مبالٍ بالتعيير الذي احتمله من أجل أن يصنع لنا خلاصنا ويفتدينا، يقف عند نقطة النهاية ينتظرنا.. والذين أخذنا عنهم ميراث إيماننا مجتمعون من حولنا كسحابة شهود عظيمة يؤكدون لكنيسة اليوم: «أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد ان يستعلن فينا» (رومية ٨: ١٨).. «لأن ما نواجهه  الآن من ضيقات عابرة يذخر لنا مجدًا لا حدود له في الأبدية.» (قراءة شخصية للنص في رسالة كورنثوس الثانية ٤: ١٧).. وحتى نلتقي في المرة القادمة أتمنى من كل قلبي وأصلي أن تتغير الأحوال في مصرنا الغالية بمصالحة بين الأشقاء، تمكِّن السلام فيعود الاستقرار الذي غاب عن بيوتنا وأعمالنا.. وعندئذ لن يمنعني تفاعلي مع آلام وطني عن أن أعود لمواصلة أحاديث من أجل العائلة.


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٣ فبراير/ شباط ٢٠١٣) 

Copyright © 2013 Focus on the Family Middle East. All rights reserved  .