بقلم: سامي يعقوب

وسط صخب الحوار مع ابني الشاب عن انتخابات الرئاسة، واختلاف وجهتي نظرنا بصفة عامة عما يحدث في الوطن اليوم، وما نتوقع أن يحدث في الغد، أشرق علينا المستشار عدلي منصور بخطاب تاريخي، حرك مشاعر وقلب الأمة. لقد ألزمنا عمق فكر الرجل، وصدق تعبيره عن خبرته كرئيس لمدة عام تقريبًا أن نصمت لبعض الوقت قبل أن نستكمل حوارنا.. لكن الحوار بعد هذا الخطاب انتقل من الاختلاف حول توقع العودة إلى بوليسية نظام ما قبل يناير ٢٠١١ للتفكير في تدخل الله العجيب في لحظة فارقة في تاريخ وطننا. أتى الله بهذا الرجل المحترم والقدير ليعبر بنا من مرحلة اللادولة  وطغيان الغوغائية إلى  فجر جديد نسترد فيه مصرنا بعد أن كادت تصبح أفغانستانًا أخرى.. لقد تجدد الأمل. أصبح التحدي اليوم أن يعود إلينا الاستقرار والسلام الاجتماعي اللذان تراجعا وراء الفوران الثوري الذي ساد البلاد لأكثر من ثلاثة أعوام!

 ”الإيمان بالله يشمل الإيمان في توقيتات الله“.. كيف رتب الله أن يحل يوم تولي المستشار منصور رئاسة المحكمة الدستورية العليا في نفس اليوم الذي كان لابد أن يُعين فيه رئيسًا مؤقتًا للبلاد؟ إنه التوظيف الإلهي الدقيق للمجريات الطبيعية للأمور بحسب ترتيب البشر لتتفق مع تعيينه للأزمنة والأوقات؛ وهكذا يحقق الله مقاصده وإن خالفت توقعاتنا! أعتقد أننا نتفق جميعًا، وإن تباينت آراؤنا عن الانتخابات الرئاسية، أن ما حدث قبل حوالي عام، وما وصلنا إليه اليوم، معجزة بكل المقاييس.. معجزة لا يمكن لأحد أن يدعي الفضل في صنعها لنفسه؛ فحتى تلاقي إرادة الشعب شبابًا وكبارًا، مع التجاوب الحاسم لجيش بلادي، لم يكن سوى تعبير بسيط عن معنى أن الله «ضابط الكل». المعجزة في هذه القرينة هي التدخل الإلهي بالحل عندما يعجز الناس عن أن يجدوا السبيل إليه!

المستشار عدلي منصور قدم لنا نموذجًا يستحق أن نناقش أبناءنا حول سمو قيمته، في عالم أوشك أن يختفي فيه المثل الأعلى للقيمة الحقيقية من أمام أعينهم، بعد أن أصبحت «البلطجة» بصورها المختلفة تبدو أنها «بطولة»! لا شك أن مزيج التواضع مع الحكمة إكسير يشدد من عزيمة العظماء الذين يصنعون التاريخ.. ”أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم، والعظماء يتسلطون عليهم.. فلا يكون هذا فيكم. بل مَنْ أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا" (متى ٢٠ : ٢٥ و٢٦). وعندما نقرأ عن رفض ابن هذا الرجل لما يمنحه البروتوكول له من حق استخدام قاعة كبار الزوار بمطار القاهرة، نعرف أي نوع من الآباء قد تربى على يديه.. "ثواب التواضع ومخافة الله هو غنى وكرامة وحياة" (أمثال ٢٢:٤).. هذه ملاحظتي الأولى.

 أما ملاحظتي الثانية، فقد خطرت على بالي عندما وجدت ابني يقول لي أثناء حوارنا حول الأحداث، بنبرة لم ينقصها الاحترام: ”يا بابا إنت مش شايف الأمور على حقيقتها!“ وحتى لا ينقطع حبل التواصل بيننا، حاولت بهدوء أن أشرح له أن اختلافنا في الرأي لا يعني بأية حال أن الأكبر سنًا لا يستطيع أن يرى الأمور على حقيقتها، وإن كان أقل حماسًا وثورية.. فرؤية الأشخاص لحقيقة الأمور ترتبط قطعًا بما أتاحته لهم سنوات العمر من خبرات، وطورت فيهم من قدرة على تمييز الأمور. وقد عاد هذا النقاش بذاكرتي إلى الأيام الأولى من ثورة يناير، عندما انهارت منظومة الأمن فنزلنا إلى الشوارع لنحمي أسرنا وبيوتنا.. وتذكرت مشهدًا لايزال محفورًا في مخيلتي، عندما استوقف أحد الشباب في الشارع الذي أسكن فيه سيارة يقودها رجل يعلو الشيب رأسه، وراح يطلب منه أن يبرز بطاقة هويته، ويسأله إلى أين هو ذاهب، ولما هَم بتفتيشه انفجر الرجل في البكاء لشعوره بالمهانة! لقد مضت أيام اللجان الشعبية، لكن الكثير من شبابنا لم يجدوا بعد مَنْ يشرح لهم أن لكل وقت أذانًا، وأنه مع تقديرنا لكل ما قاموا به بشجاعة في تلك الأيام، فهذا ليس مصوغًا يعطيهم الحق الآن لفرض ما يرونه الأفضل لمستقبل البلاد!

 

بلادنا تواجه تحديات عظيمة، لا تملك القيادة التي اختارها الشعب عصًا سحرية لتحويلها إلى فرصة لبناء وطن جديد. في رأيي العصا السحرية هي بيد الآباء والأمهات الذين خرجوا إلى الميادين مع أبنائهم من أجل أن تبقى لنا مصر التي عرفناها.. الميدان الاستراتيجي للتغيير الآن هو غرفة المعيشة في بيتك وبيتي؛ فلا يوجد مكان أفضل منها للتجاوب العملي مع مناداة المستشار منصور بضرورة العودة إلى ما افتقده المجتمع من قيم وأخلاق.. فالبر يرفع شأن الأمة.

 نحن بحاجة لأن نشرح لأبنائنا أن التمادي في حالة التمرد والرفض هو ما سيضيع الأحلام التي قدم بعض أقرانهم حياته ثمنًا لتحقيقها.. وعندما تناقش ابنك أو ابنتك فيما يظنونه صحيحًا لا يراه الكبار، تجنب النقد اللاذع الذي قد يشعرهم أنك لا تحترم آراءهم، مهما كان ما يسوقونه من أسباب للدفاع عنها. الشباب بطبيعتهم عندما يشعرون بعدم التقدير يبذلون جهدًا خارقًا لتحويل مسار الحديث إلى قضايا جانبية، فتضيع فرصة حفزهم على التفكير في وجهة النظر التي تحاول بالحوار أن تجعلهم يأخذونها في الاعتبار. «إذا أردت أن تحرك جبلاً ضع إصبعك عليه، واضغط، واستمر في الضغط»(مثل صيني).. فلنعمل معًا لنحرك جبلاً ارتفع في عقول أبنائنا بمفاهيم عن الحرية لا تتناسب مع قيمنا، ولا يتفق أفضلها مع ظروفنا الحالية! هكذا نشترك معًا في بناء وطننا من خلال إعادة بناء التوجهات الفكرية لأبنائنا.

لا جدوى من التمني للوصول إلى هذه الغاية.. إنه الحوار، واستمراره، ولا شيء سواه!


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٨ يونيو/حزيران ٢٠١٤)

Copyright © 2014 Focus on the Family Middle East. All rights reserved