بقلم: سامي يعقوب

للمزيد من هذه السلسلة:

عائلاتنا والأزمة ١          عائلاتنا والأزمة ٢          عائلاتنا والأزمة ٣       

عائلاتنا والأزمة ٤          عائلاتنا والأزمة ٥


حتى لا نغرق في الشعور بالمرارة والغضب بسبب معاناة وآلام الأسابيع الماضية، وحتى لا نترك أبناءنا يصارعون مع توقعات مستقبل تحيطه المخاوف؛ نحتاج كعائلات أن نتوقف قليلاً لنتستكشف ما يمكن أن تؤثر به الأزمات إيجابيًا على أسلوب تفكيرنا، والطريقة التي نعيش بها أيام حياتنا، طالت أو قصرت، وذلك عندما يتعرض إيماننا المسيحي لتحديات قاسية .

كثيرًا ما نعجز كبشر بمحدوديتنا أن نرى كيف يمكن للأزمات أن تغير حياتنا للأفضل. ولا يمكننا تجاهل حقيقة أن الأزمات في قسوتها قد تجعل البعض منا يشعر أحيانًا أن الله بعيد، ولا يهمه ما يحدث معنا، خاصة عندما يبدو أنه لا يسمعنا.. وأنا أرى أن هذا رد فعل بشري وطبيعي في مثل هذه الظروف. لكن مثل هذه المشاعر قد تكون أحيانًا ضرورية من أجل أن نتعامل مع أحزاننا، ونجدد ثقتنا في إلهنا. وقد يضعف عزم البعض منا ويشعرون بالفشل عندما لا تتفق توقيتات الله مع توقعاتهم بأن يتعامل في الحال مع الأزمة، وبالشكل الذي يتمنونه! لكن الله لا يعمل بهذه الطريقة، وأحيانًا كثيرة يقصد أن يتأنى؛ فتوقيتاته تختلف عن توقيتاتنا، لكنه بالتأكيد سيأتي إلينا في الوقت الذي يراه مناسبًا ليتمم مقاصده الرائعة في حياتنا وحياة كل من هم حولنا. كذلك فإن طرق الله في التدخل تختلف تمامًا عما نفكر فيه نحن أنه الحل الأمثل.

وربما من أفضل الأحداث الكتابية التي تشرح لنا فكر الله في مثل هذه المواقف هو ما واجهه الرب يسوع نفسه عندما كان في طريقه إلى أورشليم وأراد أن يدخل قرية للسامريين، فرفض أهلها أن يقبلوه.. وكان رد الفعل الفوري لتلميذيه يعقوب ويوحنا: «يارب.. أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم؟» ويسجل لوقا البشير في تفرد أن الرب يسوع التفت إليهما وانتهرهما قائلاً: «لستما تعلمان من أي روح أنتما! لأن ابن الإنسان لم يأت ليهللك أنفس الناس، بل ليُخلص.» (لوقا ٩: ٥١-٥٦).. ولعل الرب كان يقصد أن يقول لتلميذيه: "مع أن رد فعلكما هذا نابع من محبتكما لي، فأنتما لا تعرفان أنفسكما. فلابد أن يكون الحب أقوى من الانتقام، لأني جئت لأعطي فرصة للجميع للتوبة." فهل نسمعه يقول لنا نفس هذه الكلمات اليوم؟

جاءتني أم تعلق على ما كتبته في المقال السابق، وقالت: "لقد وجعتني بقولك أن ابنيك ليسا أفضل من أي ابن قُطفت حياته في أحداث ماسبيرو!" وبالحديث معها أدركت أنها كانت تقصد أن تقول: "لقد أخفتني!".. "معك حق ياسيدتي؛ فلا أحد منا يقوى حتى على تخيل أن يفقد أبناءه لأي سبب." وبالطبع أنا لم أقصد أن ندفع بأبنائنا إلى التهلكة، لكن الفقدان القاسي لأبنائنا في ماسبيرو حركني بقوة لأفكر مجددًا أنه لا معنى لحياة أي واحد منا هو وأبناؤه إن كان كل ما يهم هو مجرد أن نعيش! فالأزمة التي اختبرناها، وتوقعات المستقبل أخذتني من كل ما يشغلني، ووضعتني أمام جدية تحدي الإجابة على أهم سؤالين يمكن أن نناقشهما مع أبنائنا في هذه الأيام: «لمن نعيش؟» و«لمن نموت؟»

ومع أن الإجابة على السؤالين لم تكن سهلة على الإطلاق، وأعتقد أنها أبدًا لن تكون.. إلا أنني وجدت الحوار حولهما مع أسرتي يؤكد الهُوية الإيمانية لابنينا، وقد قادتنا المناقشة للحديث عن دعوة الله العليا لكل منا بأن تكون حياته في مجملها، وسلوكه اليومي مع الآخرين كملح يتصدى لانتشار الفساد، وكنور يُضيء في الظلمة. والملح والنور، حتى وإن كانا أقلية، فلا استغناء عن دورهما أو تأثيرهما؛ فهما بهدوء وفاعلية يصنعان فرقًا حيثما وجدا.. المهم ألا يفسد الملح بمغريات العالم، وألا يختفي النور تحت وطأة تهديد المقاومين.

إذا استطعنا أن نقرر بوضوح مع أبنائنا لمن نعيش ولمن نموت، سنستطيع أن نتغلب على كل المفاهيم الانهزامية أو الانسحابية التى تصاحب عادةً الأزمات التى نشعر أنها تفوق قدرتنا كبشر على أن نتعامل معها. وعندئذ سيختفي من حياتنا مفهوم "مفيش فايدة" الذي يحاول عدو الخير أن يُسربه إلى قناعاتنا، والذي يتجاوب معه البعض بالهروب الجغرافي، وهم لا يعلمون أن استبدال الأوطان ما هو إلا استبدال لنوع الضغوط والتحديات التى تواجه كل إنسان يسعى أن يعيش حياة ترضي إلهه. وهذا لا يعني أنني ضد الهجرة بصفة عامة، لكني أرفض الهروب لمجرد التخلص من الضغوط. والمقياس الذي يصنع الفرق هنا: «لا يهم أين تعيش بل لمن تعيش

"لمن أعيش ولمن أموت".. سؤالان يُخرجان كل مسيحي من دائرة التفكير الأحادي في ذاته؛ فهما يهزان بشدة كل جدران الأمان الزائفة التى استغرقت أيام العمر منا لنبنيها عاليًا حول أبنائنا؛ في محاولة أن نحميهم من شر الأيام، وأن نوفر لهم مستقبلاً أفضل. لقد أفقدنا سعينا المحموم وراء كل ما نظنه الأفضل قدرتنا على أن نغامر بأن نسأل، ولو مرة واحدة: "ماذا تريد يا رب من حياتي أنا وأبنائي؟" فنحن نخاف أن تأتينا الإجابة بما يتطلب منا أن نتضع، أو نتنازل، أو نضحي! ولعلنا نخشى أن نفعل هذا لئلا نفقد ما لدينا من أشياء، أو نضطر للاعتراف بخطأنا ضد الله والآخرين.. مع أن العكس هو الصحيح! إن عطايا الله لنا هي بالتأكيد بلا ندامة، وعندما يكون توجه حياتنا أن نعيش له فإن تمتعنا بالعلاقة مع المعطي ستفوق بما لا يقارن استمتاعنا بالعطية نفسها.

لقد خلقت الأزمة اتجاهًا جديدًا في حياتي وتفكيري أردت أن أشارككم به قبل أن تأخذنا دوامة الحياة مرة أخرى؛ فننسى أن الله في حكمته يستخدم أصعب الأوقات ليغير حياتنا هنا، وليعدنا للحياة معه عندما يشاء ويدعونا إليه. ترى هل نتوقف عن الغضب وطلب الانتقام.. ولنفحص أنفسنا، ونراجع من جديد حساباتنا، ولنتضع أمامه، ونعترف بتقصيرنا بل وبقصور تفكيرنا، ولنسمح له بأن يحررنا من عبودية الأرضيات، وأن يقود حياتنا في موكب نصرته ونحن ننشد مع بولس الرسول: «إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت. فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن.» (رومية ٨:١٤).


 (نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٣٠ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١١)

Copyright © 2011 Focus on the Family Middle East. All rights reserved.