بقلم: سامي يعقوب

للمزيد من هذه السلسلة:

عائلاتنا والأزمة ١          عائلاتنا والأزمة ٢          عائلاتنا والأزمة ٣     

عائلاتنا والأزمة ٤          عائلاتنا والأزمة ٥


 

هل أزعجتك نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية؟ ترى هل كانت في أغلبها متوقعة بالنسبة لك؟ وهل يُحيرك مثلي السؤال: "وماذا بعد؟"

بالرغم من أننا لا نستطيع أن نتحكم الآن بشكل مؤثر في مجريات الأحداث، وتطور الظروف التي تحيط بنا، إلا أنه يوجد بالتأكيد أمام كل واحد منا فرصة لاختيار الكيفية التي سيتجاوب بها مع ما لم يختره، أو ما كان لا يتمنى حدوثه. 

 

على أية حال، المسافة التي نحتاج أن نعبرها بين اختيار الاستسلام لخيبة الأمل والإحباط، والاستعداد لمواجهة التحديات بثقة وثبات، ليست قصيرة أو هينة.. ولعل أخطر ما يمكن أن يُصيبنا بالشلل الفكري، ويدفعنا للهروب إلى الخارج، أو الانزواء وراء مخاوفنا في انتظار وقوع البلاء، هو الحكم المتسرع على الأمور.. فلا يزال هناك -في رأيي- ما يبعث على الأمل.

في هذه المرحلة الفارقة في تاريخ بلادنا نحتاج كعائلات أن نواصل الدعم المعنوي والروحي لأبنائنا، صغارًا وكبارًا، حتى يثبتوا في مواجهة العواصف متى جاءت.. ألم يُوصنا الرب كآباء وأمهات أن نبني بيوتنا على الصخر، حيث نعمق أسس الإيمان في حياة أبنائنا بواسطة كلمته؛ فلا تتأثر بالعواصف التي تهب، وتُطيح عادة بالبيوت المبنية على رمال الخوف، والشعور بالقلة والانهزامية؟ دعونا نؤكد لأبنائنا أن أسوأ ما يمكن أن نعايشه، إذا حدث وتسلط المتشددون على أمور البلاد، مع ما يمكن أن يتبع هذا من قهر قد يُرغمنا على قبول أسلوب حياة لا يناسبنا، لا يُقارن أبدًا بما واجهه الرسل وتحمله الآباء عبر التاريخ حتى ينقلوا ميراث الإيمان المسيحي من جيل إلى جيل، حتى وصل إلينا اليوم.

 في الأسبوع الماضي، تخيلت زيارة للرسول بولس في زنزانة سجنه في روما.. ووجدته هناك وحيدًا، جالسًا على صندوق خشبي، ومنكفئًا على منضدة صغيرة أمامه يكتب رسالة على رق من الجلد.. في ذلك الوقت لم يكن الرسول يعرف مصيره الذي كان سيتحدد بعد أيام قليلة! ومن نافذة صغيرة في أعلى جدار الزنزانة تسلل خيط رفيع لشعاع من نور أضاء الزنزانة قليلا. فاقتربت بعينيّ لأقرأ ما كان الرسول مشغولاً بكتابته، واستطعت بالجهد أن أرى كلمات تقول: «ثم أريد أن تعلموا أيها الأخوة أن أموري قد آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل، حتى أن وُثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية، وفي باقي الأماكن أجمع. وأكثر الأخوة، وهم واثقون في الرب بوثقي، يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف!» (فيلبي ١ : ١٢ - ١٤). وأذهلتني كلمات الرسول: «أموري قد آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل»، فتوقفت عن القراءة، ورجعت بفضول إلى الأصحاحات الثمانية الأخيرة من سفر أعمال الرسل لأراجع سلسلة الأحداث المثيرة التي لخصها بولس في كلمة واحة: «أموري».. أو ظروفي.

كان الرسول، قبل نهاية حياته، وبعد ثلاث رحلات تبشيرية مجيدة، قد عاد إلى أورشليم، وهناك اتهمه اليهود المتعصبون زورًا بأنه نقض الناموس، ودنس الهيكل بإدخال أمميين فيه! وقد عزم أولئك المتدينون الأشرار أن يقتلوا بولس.. لكنه أُنقذ منهم، واعتُقل وأُخذ إلى قيصرية حيث سُجن لمدة عامين، ثم طلب بولس أن يُحاكم أمام الإمبراطور في روما.. وفي الطريق بحرًا إلى هناك حطمت عاصفة شديدة السفينة التي كان مُبحرًا عليها، ومع أن بولس وكل من كانوا معه نجوا من الغرق إلا أن السفينة تحطمت تمامًا، وسبح الجميع إلى شاطىء جزيرة قريبة، وهناك لدغته حية سامة خرجت من حطب كان يُلقيه في نار أشعلها الناجون ليستدفئوا حولها! والآن ها هو سجين في روما، يقضي وقته في كتابة بعض الرسائل التشجيعية للكنائس التي خدم فيها!

 

عندما توقفت أمام معاني ما كنت أقرأه، تعجبت وكأني أقرأ هذه الكلمات لأول مرة، مع أنني قرأتها مرارًا من قبل! وهنا ثارت بداخلي أفكار وتساؤلات شغلتني طويلاً، فقررت أن آتي بها إليكم اليوم. لقد أبهرني الرسول بولس بموقفه تجاه معاناة القيود والسجن.. فكيف لمؤمن مسيحي أن يحتفظ بإيجابيته في ظروف مثل هذه؟! وعندما قررت أن أطرح السوال للحوار مع أسرتي، بينما كنا نناقش مجددًا توقعات المستقبل، واجهت تحدي أسئلة أخرى مثل: تُرى هل يمكن أن يخرج خير مما نراه نحن شرًا؟ هل في السجن، أو الضرب والرجم خير؟ أي خير يمكن أن ينتج عن الاتهامات الباطلة بالكفر؟ وما الخير فيما يهدد حياتنا ومستقبلنا؟ هل لدغة الحية خير؟!  في ضوء الرسالة التي كتبها بولس إلى كنيسة فيلبي وجدنا تشجيعًا يجدد عزمنا كي نجتهد لندرب أنفسنا على النظر إلى الأمور من خلال الاقتناع الواثق أن الله يعمل في بلادنا من خلال ما يحدث فيها هذه الأيام.

 

لو أن الرسول بولس قد تجاوب مع الضيق الذي كان يجتازه، أو أجاب على مثل هذه الأسئلة بنفس الأسلوب الذي نسمعه ونراه من الكثيرين اليوم، لكان قد كتب رسالة حزينة ومحبطة لكي يُثير شفقة مَنْ كانوا يستمعون إليها.. لكن بدلاً من ذلك، وبشكل يثير الإعجاب، كتب رسالة تُعرف بأنها رسالة الفرح، وفيها سجل كل الخير الذي نتج عن سجنه ومعاناة قيوده! فما جرى له ساعد على انتشار البشارة (عدد ١٢)، وبقيوده تشجع الأخوة، وأصبحوا أكثر جرأة على التبشير بكلمة الله بدون خوف (عدد ١٤).. أرجو أن ترجعوا إلى كلمة الله لتجدوا في رسالة فيلبي تعزية وتشجيعًا لعلنا في أشد الاحتياج إليهما اليوم.

بعيدًا عن أي تشاؤم أو تفاؤل تجاه المستقبل -فهما ليسا من الممارسات المسيحية- أتوقع خيرًا قادمًا لبركة جميع أهل مصر من خلال كل ما يحدث الآن على الساحة السياسية.. وأعتقد أن هذا الاتجاه الفكري قد لا يتفق مع الميل الطبيعي لتفكير الكثيرين؛ فهذا يعتمد في الأساس على مقدرة الأشخاص أن يضعوا توقعات المستقبل والمخاوف التي تحيط به في حجمها الحقيقي.. إنني من المؤمنين أن هناك فرصة لم يسبق أن أُتيحت منذ سنين عديدة لأن يُشرق نور المسيح في الظلمة، وأن تُقهر الكراهية بالحب الإلهي الذي لا يستطيع أحد أن يقاومه. ولا شك أن الوقت قد حان لنسترد السمعة التي ميزت حياة آبائنا، والتي كانت تجعل كل الذين يريدون أن يستودعوا ثرواتهم وتجارتهم وكل ما لهم أمانة في يد أحدهم أن يختاروا مسيحيًا!

 

وحتى نستطيع أن نصمد في مواجهة العاصفة نحتاج لأن نتوقف مع عائلاتنا لنراجع من جديد أولويات حياتنا، وليُجب كل منا بصدق مع نفسه على السؤال: "ما هو واقع علاقتي مع يسوع المسيح؟" فمن يستطيع أن يحسم أمره بوضوح  سيعرف إلى أي مدى سيمكنه أن يتمسك بالمسيح إذا اقتحمته الضغوط لينكره.. لنتكل مجددًا على نعمته لتقوينا، ولنقبل حقيقة أن الله في حكمته قد يطفىء نور شمعة كنا نظن أنها تُنير حياتنا من أجل أن يأخذ أعيننا لأعلى لنرى لمعان نجوم الأبدية!


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١١ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١١)

Copyright © 2011 Focus on the Family Middle East. All rights reserved