بقلم: سامي يعقوب

    للمزيد من هذه السلسلة:

    كيف ننظر للمستقبل ١          كيف ننظر للمستقبل ٢           كيف ننظر للمستقبل ٣


 "هل يتدخل الله في شئون البشر؟ وكيف؟" سؤال قادني لأرجع مع أسرتي إلى سِفر أظنه من أجمل النصوص التاريخية التي سجلها الوحي المقدس.. سفر لم يُذكر فيه اسم الله ولا مرة، لكنه يُركز بقوة على حقيقة تدخل العناية الإلهية في الوقت المناسب لتقود أمور الحياة لتعمل لخيرنا، حتى عندما تناقض توقعاتنا، وفي نفس الوقت لتحقق مقاصد الله العليا في حياة البشر جميعًا!

 

ولأن سفر أستير يحكي عن إنقاذ شعب إسرائيل من الهلاك، فإن الكثيرين من مسيحيي الشرق الأوسط قد يتجنبون الحديث عنه؛ ربما إيثارًا للسلامة، أو للفهم الخاطئ لرسالة السفر.. وهذا بسبب الخلط بين شعب إسرائيل في الكتاب المقدس وممارسات الكيان الصهيوني في الوقت الحاضر، والتي لا يقبلها أي إنسان له ضمير حي، عربيًا كان أم أجنبيًا. القارئ المدقق لهذا السفر يستطيع أن يرى بوضوح ما يتضمنه من حق إلهي، خارج قيود الفكر التي فرضها علينا تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. وما يسهل علينا الأمر هو الانتقال من القرينة التاريخية لقصة السفر إلى ما نعيشه اليوم من تحديات، والسماح للنص أن يتحدث إلينا.. فالعناية الإلهية التي قادت الأمور آنذاك لتنقذ اليهود من الهلاك، هي نفسها التي تمسك بزمام ما يجري من أحداث الحياة الحاضرة ليس في بلادنا فقط، بل في العالم كله.. فالله ضابط الكل، وهو المسيطر على كل ما يحدث منذ بدء التاريخ، ولايزال يفعل، وسيكون هكذا إلى الأبد!

 لا يمكن أن ننظر لسفر أستير على أنه مجرد سرد لقصة كراهية مسئول في ديوان ملك فارس، صعد فجأة إلى مركز الرجل الثاني بعد الملك، واستطاع بخبث أن يُحيك مؤامرة ليدمر أقلية مسالمة كانت تعيش في أرجاء الإمبراطورية التي كانت تمتد من إيران حتى أثيوبيا. وجدير بالذكر هنا أن هامان الأجاجي هذا هو من سلسلة أحفاد "أجاج" ملك عماليق الذي عفا عنه الملك شاول متعديًا تعليمات الرب، لكن صموئيل النبي جاء ونفذ فيه حكم الإعدام من أجل ما فعله العماليق مع شعب العبرانيين عند صعودهم من أرض مصر (١صموئيل ٢٤- ٣٠).. فالعداء إذن كان له تاريخ، ولم يكن ببساطة نتيجة لخلاف بين رجل من عامة الشعب رفض أن يسجد لآخر في مركز السلطة، فقط لأن وصايا دينه تمنعه من السجود إلا لله وحده. على أية حال، لقد دارت الدوائر، وانقلبت المائدة على هامان الشرير؛ فهلك هو وكل الذين تحمسوا لتنفيذ مؤامراته الدنيئة. هذا السفر يؤكد المبدأ الإلهي، والذي طالما تحقق عبر التاريخ: "الزارع إثمًا يحصد بلية!" (أمثال ٢٢: ٨).

كذلك لا يمكننا أن نقارن بين أستير والقصة الشيقة التي تحكي عن فتاة يتيمة وفقيرة اسمها "سندريلا" فازت بحب الأمير فتزوجها، بالرغم من كل محاولات زوجة أبيها الشريرة من أن يتزوج الأمير من إحدى بناتها، اللاتي ظنت أنهن أكثر استحقاقًا من سندريلا لنوال هذا الامتياز! لا؛ فلقد أعد الله أستير البسيطة لتلعب دورًا ليس بسيطًا، دورًا لم يكن يمكن اختزاله أبدًا من خطة الله ليحقق قصده الذي غيَّر به التاريخ.. فلقد كان لابد أن يحفظ الله هذا الشعب الذي اختار أن يأتي من خلاله المسيّا المخلِّص.. وكيف كان لهذا القصد أن يتحقق لو تمكن هامان من تنفيذ مؤامرة حقده الدفين؟!

 

لقد كانت أحداث هذه القصة المثيرة موضع نقاش جاد وممتع مع أسرتي طوال الفترة الماضية، وسأترك لمن يتابع هذا الركن من "وطني" أن يستكشف بنفسه التطبيقات الحالية لتلك الأحداث.. لعل هذا يأتي بسلام يملأ القلب وسط حالة الاضطراب والخوف من المستقبل التي تحيط بنا في هذه الأيام.

إنني من أشد المؤمنين أن لكل مسيحي، لكل أستير ومردخاي معاصرين، دورًا عينه الله له، ويريده أن يقوم به أينما وُجد.. ففي وقت مثل هذا تحتاج مصر لمثل هذه الأدوار الشجاعة، والأمينة، والتي تعطي للمصلحة العامة أولوية على أي منفعة أو أمان شخصي. وبينما يحمل كل منا المسؤولية الملقاة على عاتقه، لنتشجع باليقين أن الله حاضر في تاريخ البشر مهما كان مضطربًا، أو مهما بدا المستقبل معقدًا وثقيلاً.. فوسط صراع القوى، وظهور حقيقة أجندات اللاعبين في الساحة السياسية الآن، يمكننا أن نجدد العزم والشجاعة عندما نتذكر من جديد الحكمة: "... فوق العالي عاليًا يُلاحظ، والأعلى فوقهما" (جامعة ٥: ٨).

 

ما يدور من أسئلة في بيوتكم لا يختلف كثيرًا عما يسأل عنه ابناي، ولو اختلفت الكلمات أو أساليب التعبير.. لكنها أسئلة نابعة عن شعور بالقلق من محاولة التعامل مع الاحتماليات الناتجة عن التغير الحادث في أوضاع الوطن، وتوقعات مَنْ الذي سيحكم مصر، وتأثير ذلك علينا كأقباط مسيحيين.. ومن الطبيعي تحت هذا الكم الهائل من الضغوط أن يتوقع البعض أن يتدخل الله بمعجزة تثبت سيطرته على الأمور، وهكذا يتحقق لهم ما يتمنونه في أقرب فرصة. لكن العناية الإلهية لا تعني بالضرورة أن يتدخل الله في الحال بعمل إعجازي، بل في الأغلب يستخدم القوانين الطبيعية التي وضعها للحياة، بما فيها الإرادة الحرة التي أعطاها للإنسان ليقرر ويختار ما يستحسنه لحياته، وذلك لتحقيق مقاصده الإلهية. في النهاية مَنْ يختار الخير سيحيا ويكافأ، ومَنْ يختار الشر سيحصد نتيجة اختياره.. الذين اختاروا "لا" في الاستفتاء على الإعلان الدستوري حزنوا لنتيجته، والذين اختاروا "نعم" ظنوا أنه نصر من عند الله لغزوة خططوا لها، وقادوها بمهارة.. تُرى بماذا يفكر اليوم أصحاب "لا"، وأبطال "نعم"؟ "في قلب الإنسان أفكار (خطط) كثيرة، لكن مشورة (مقاصد) الرب هي تثبت (تتحقق في النهاية)" (أمثال ١٩: ٢١).

ونواصل الحديث في المرة القادمة...


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ٥ مايو/أيار ٢٠١٢)

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved