بقلم: سامي يعقوب

     للمزيد من هذه السلسلة:

     كيف ننظر للمستقبل ١       كيف ننظر للمستقبل ٢           كيف ننظر للمستقبل ٣


مازلت مشغولاً بأحداث سفر أستير، بينما أتابع الأحداث الجارية في الوطن! فقد حاك هامان الشرير المؤامرة، واستصدر بخبث مرسومًا من إمبراطور فارس بأن يُبيد الأقلية اليهودية التي كانت تعيش في أرجاء البلاد. 

ولأن ما كان يصدر من شرائع فارسية في تلك الأيام كان يستحيل التراجع عنه؛ فقد بدا أن الشعب قد دخل في نفق مظلم بلا مخرج، وأن الكراهية التاريخية بين هامان الأجاجي وشعب إسرائيل قد تسيدت الموقف، ولم يتبق في فصول المؤامرة، التي استمالت الكثيرين من الفُرس المغيبين عن الحق، سوى حلول يوم تنفيذ المؤامرة، وهلاك الشعب!

 

وبينما كان هامان منهمكًا في الإشراف على إرسال خطط الإبادة إلى جميع المسؤولين بأقاليم المملكة، لم يكن الله ظابط الكل خارج المشهد! ففي الوقت الذي فيه أعمى النجاح المؤقت للخطة الشريرة هامان، وقد ظن أن مصائر الناس بيده، كانت خطة العناية الإلهية تتحقق بدون ضجيج، وبتوقيتات محسوبة، وباستخدام لأشخاص لم يكونوا من ذوي الشأن أو السلطان! إن أروع ما في أحداث هذا السفر أنها مترتبة على بعضها ومترابطة معًا، بشكل لم يكن من الممكن اختزال أي منها، أو حدوثه في غير موعده! ومن المثير أيضًا أن نرى كيف حقق الله مقاصده من خلال اختيارات أبطال القصة الرئيسيين والثانويين، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية، أو نوعية اختياراتهم. فبقدر أهمية الدور الذي قام به مردخاي وأستير، استخدم الله هيجاي حارس النساء في القصر ليرعى أستير بشكل خاص، لتنال في النهاية استحسان الملك فيختارها زوجة له. كذلك لعب هتاخ خادم أستير دورًا حيويًا في توصيل رسائل مردخاي إليها في أحرج الأوقات، حين لم يكن باستطاعته أن يتواصل معها مباشرة. ولنلاحظ أن كلا الرجلين كانا من الفرس الوثنيين، ومن نفس شعب هامان مهندس مؤامرة الإبادة!

تبدأ أحداث السفر في التصاعد بغضب الملك أحشويروش من وشتي الملكة، والتي رفضت طلبه بأن تعرض جمالها على ضيوفه! تُرى هل كان يمكن أن تُصبح أستير في هذه المكانة بدون الرفض المشرِّف لوشتي بأن تفعل ما فعلته ابنة هيروديا أمام ضيوف هيرودس في أيام يوحنا المعمدان؟ هل كان اختيار وشتي الأخلاقي يستحق رد الفعل المتهور للمخمور أحشويروش، وعقابه لها بالعزل؟ بحسب الفكر البشري لا! لكن من الواضح أنه لم يكن ممكنًا اختزال أي من الاختيارين، مع اختلافهما، لكي تتحقق المقاصد الإلهية. بالمناسبة، قرار عزل وشتي لم يُخرجها تمامًا من تاريخ الأحداث؛ فهي أم الملك أرتحشستا ابن أحشويروش منها، والذي ملك بعده في أيام نحميا. ولابد أنها لعبت دورًا في حياة ابنها هذا، جعله يتعاطف مع إحساس نحميا بضرورة العودة إلى بلاده لإعادة بناء سور أورشليم المنهدم، حتى أنه دعمه معنويًا وماديًا ليحقق رؤيته. وعندما رجع نحميا إلى أورشليم قاد الشعب في أحد أعظم النهضات الروحية المذكورة في الكتاب المقدس.

ثم تصاعدت أحداث السفر بشكل أكثر إثارة عندما تواجد مردخاى، ليس مصادفة، في موقع جعله يكشف مؤامرة لقتل الملك غدرًا! الغريب أن هذا الموقف الشجاع لم ينل أي تقدير فوري من أحشويروش الذي أُنقذت حياته! ولعل مردخاي تساءل آنذاك: "لماذا؟".. لأن توقيتات الله لا تتفق دائمًا مع ساعة الزمن البشرى! ففي نفس الوقت الذي جهز فيه هامان خشبة ليصلب عليها مردخاي، حان الوقت الإلهي لتكريمه! أما أستير فقد أعدت وليمتين دعت إليهما الملك وهامان، وكانت تخطط لأن تخبر الملك عن مؤامرة هامان الدنيئة بأن يُبيد شعبها. ومن الغريب أيضًا أنه عندما سأل الملك أستير عما يُزعجها أثناء الوليمة الأولى، ووعدها بأن يُلبي طلبها مهما عظم، أنها -خلافًا للمتوقع- أجَّلت حديثها لوليمة الغد! لماذا؟ لأن عقارب الساعة الإلهية لم تكن تُشير بعد إلى توقيت الخطوة التالية في خطة الإنقاذ الإلهية، والتي لم يكن من الممكن اختزالها أيضًا! فما بين الليلتين أَرِق الملك، ولما لم يستطع النوم، وأراد أن يُسلي نفسه بشيء، أمر بأن يُؤتى إليه -خلافًا للمتوقع أيضًا- بكتاب أخبار الأيام ليُقرأ أمامه.. من بين مختلف وسائل التسلية المتاحة بالقصر طلب الملك أحد أكثر الأشياء مللاً لتسليه!

ولابد أن أرفف مكتبة القصر كانت تزدحم بكثير من كتب أخبار الملوك التي تسجل فيها دقائق أحداث المملكة.. فهل كانت مصادفة أن يلتقط خادم الملك هذا الكتاب تحديدًا، ويفتحه عند الصفحة التي تحكي أن مردخاي قد أنقذ حياة الملك من مؤامرة دبَّرها اثنان من حراسه؟! وكأنه فُوجىء بالخبر، سأل أحشويروش عن التكريم الذي ناله مردخاي مكافأة لعمله هذا.. كيف كُرم مردخاي؟ ومَنْ الذي كُلف بتكريمه؟ وكيف تطورت الأحداث بعد ذلك؟ نجد كل هذا مُسجلاً في الأصحاح السادس من سفر أستير. إنني أقف في صمت مندهشًا أمام التوجيه الإلهي لتتابع الأحداث بشكل حقق الله من خلاله خلاصًا لشعبه من الهلاك الذي دبره الأشرار. وعندما أفكر مع أسرتي في ما يمكن أن يأتي به المستقبل علينا، نجد سلامنا في قول الرب على فم داود النبي: «على الله توكلت فلا أخاف. ماذا يصنعه بي الإنسان؟» (مزمور ٥٦ : ١١).

كيف لشخص مسبي، محدود الإمكانيات، وبلا أي سلطان أو مركز، أن يقود عملية إنقاذ كبرى لشعب بأكمله من هلاك مُحقق؟ إنها الإيجابية التي تُخرج الإنسان من محدودية الاستسلام للقدر، والشعور بالقلة؛ فيستخدمه الله! ومَنْ كان يتوقع أن فتاة مثل أستير تختار ألا تسكت في وقت كان لابد فيه أن تأخذ موقفًا إيجابيًا، وتخاطر بحياتها لأجل شعبها، مدركة لماذا أتى الله بها إلى هذا المركز؟ إنها النعمة الإلهية التي تفجر في الإنسان شجاعة نادرة، وتملأه بالحكمة، وتعطيه القبول لدى مَنْ هم في سلطان.. فقط متى أتاح نفسه لله لكي يعمل من خلاله.

لقد كان مردخاي متأكدًا تمامًا من أن الله سيتدخل لينقذ شعبه من الدمار.. وقد بدا هذا واضحًا في الرسالة التي بعث بها مع هتاخ إلى أستير ليحثها على ألا تنسحب يأسًا من تعقد الموقف، أو طلبًا لسلامتها الشخصية: «لا تفتكري في نفسك... لأنك إن سكت سكوتًا في هذا الوقت يكون الفرج والنجاة لليهود من مكان آخر!» (أستير ٤: ١٤). كان مردخاي واثقًا من أن الخلاص في النهاية هو وعد وعمل الله، إلا أن هذا اليقين لم يقلل من إيجابيته لعمل ما يستطيعه، وتشجيعه للآخرين أن يشاركوه في تحمل المسؤولية

 

لأننا نعيش في بيئة يسودها الفكر القدري، فقد تأثرنا إلى حد كبير بالقول الشائع: "قدر الله وما شاء فعل!" وهذا دفع بالكثيرين منا للوقوع في فخ عدم الإيجابية، والانسحاب من المشاركة العملية في مجريات الأحداث، ظنًا أن ما يقررونه لن يؤثر في النهاية على ما قرره الله! في الواقع لقد استخدم الله مبادرة مردخاي، واستعداد أستير للمخاطرة بحياتها، ليحقق قصده وينقذ شعبه.. هل يعني هذا أن الله لا يتدخل في أمور الحياة عندما يختار البشر السلبية، ويفضلون الانسحاب على الإيجابية؟ بالطبع لا، فهو كُلي القدرة، ويقول فيكون. لكنه في حكمته سُر بأن يُعطينا حرية الاختيار، ومن خلال اختياراتنا يُسر أيضًا بأن يتمم إرادته بحكمة تفوق قدرتنا كبشر على الفهم.. فأيًا كانت نتيجة اختيارنا، واختيارات كل مَنْ ذهبوا إلى صناديق الانتخاب يومي الأربعاء والخميس الماضيين، فلنثق أن الله لايزال مسيطرًا على كل أمور حياتنا، وعلى تفاصيل مستقبل بلادنا. فقط علينا ألا نفقد شجاعتنا وإيجابيتنا، ولنستمر في مواقعنا نعمل بجد وأمانة، ولنستخدم مواهبنا ومصادرنا بلا خوف أو تردد لخدمة الآخرين.. لنحب ونغفر ونقبل بلا حدود.. «لأن الله لم يُعطنا روح الفشل (الخوف)، بل روح القوة والمحبة والنصح (الفهم).» (٢ تيموثاوس ١: ٧).


 (نُشر بجريدة وطني بتاريخ٢٧ مايو/أيار ٢٠١٢)

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved