بقلم: سامي يعقوب

للمزيد من هذه السلسلة:

ليس لأحد حب أعظم من هذا ١          

ليس لأحد حب أعظم من هذا ٢          

ليس لأحد حب أعظم من هذا ٣


في الأسبوع الماضي، أُتيح لي، بدون موعد مُسبق، فرصة قضاء أمسية مع أبوين أسعدتهما بركة النعمة الإلهية منذ اثني عشر عامًا بتبني طفلة رضيعة جاءت إلى الحياة غير مرغوب فيها  ..

ولولا تدخل بعض الناشطين من «مناصري الحياة»، الذين يؤمنون بأن الحياة الإنسانية هي ملك لواهبها فقط، وليس من حق أي من البشر أن يقرر استمرار حمل أمها أو قتلها بالإجهاض، لما كان لهذين الأبوين المحظوظين أن ينعما بكل ما جاءت به هذه الصبية المتألقة من متعة لا يُعبر عنها لحياتهما. لقد جدد التبني الدموية في عروقهما، وكسر ملل الوحدة الذي عانيا منه بحدة لسنين، وأعطتهما الابنة هدفًا لحياتهما فأصبحت فجأة تستحق أن تُعاش.. لقد أضافت المسؤولية الجديدة لذة لتعب الأيام، وجددت الحب المتبادل بينهما كزوجين.. وبحسب شهادتهما فإن الرضيعة التي أصبحت الآن آنسة تحاورهما لتعرف، وتشاكسهما ليضحكا من الأعماق، قد أضافت، ولا تزال، ألوانًا زاهية إلى لوحة بيت كاد جمالها أن يكلح.

ذهبت بعيدًا بمخيلتي بعد جلستنا «الهنيّة»، التي لم أكن أريدها أن تنتهي، واستغرقني التفكير في هذه الفتاة الرشيقة التي تلمع عيناها بالذكاء ولا ينقصها خفة الظل التلقائية.. وألح عليّ السؤال: «لو لم تسعد هذه الصغيرة بتدخل النعمة الإلهية التي أنقذتها من موت محقق، وأكملت عملها بتدبير أبوين يغمرانها بفيض من الحب، ويدعمان ثقتها بنفسها بتربية مسيحية جعلتها تبدو كإحدى الأميرات.. تُرى أين كان يمكن أن توجد اليوم؟ شخص مهمل في زقاق حي مُهمش؟ أم نزيلة إحدى مؤسسات الرعاية، بدون أب تنتسب إليه، أو أسرة توفر لها هُوية ومستقبلاً؟؟ وأفقت من سرحان الفكر على صوت ابني الأصغر يقول بثبات: «حتى وإن وُلد لي أبناء بعد زواجي، فإني عازم أن أتبنى على الأقل طفلين!» إذن الرسالة وصلت، فتضاعفت بهجتي في تلك الليلة!

تربية الأبناء مع كل ما يصاحبها من تحديات إلا أنها من أمتع خبرات العمر، فلماذا تحرم نفسك من فرصة وجودهم في حضنك، وإدخال البهجة إلى أيام عمرك، فيتجدد شبابك، ويُروى عطشك، ما دامت الإرادة الإلهية لم تسمح بأن يُولد لك أبناء بالطريقة البيولوجية؟ هل فكرت مرة أن الله لم يقصد أن يحرمك من أن يكون لك أبناء، بل أعد لك شيئًا أفضل من خلاله يصنع بك فرقًا في هذه الحياة، ويعطيك مكانة القديسين في الحياة الآتية؟ يحكي تاريخ الآباء أن القديس مقاريوس الكبير طلب يومًا من الرب أن يُريه مَنْ يضاهيه في سيرته، فجاءه صوت من السماء قاده إلى منزل في مدينة الأسكندرية حيث رأى امرأتين تربيان كل منهما ابن الأخرى، وتفعلان ذلك بأصوام وصلوات كثيرة.. عندئذ هتف قائلًا: «حقًا إن الله ينظر إلى استعداد القلوب، ويمنح نعمة روحه القدوس لجميع الذين يريدون أن يعبدوه».. وأعتقد أنه قصد العبادة الطاهرة النقية عند الله الآب التي وصفها الرسول يعقوب في رسالته أصحاح ٢ وعدد ٢٢ . 

الاهتمام باليتامى وصية إلهية ترتبط بوعد: «طوبى للذي ينظر إلى المسكين. في يوم الشر ينجيه الرب. الرب يحفظه ويحييه.. يغتبط في الأرض ولا يسلمه الى مرام أعدائه. الرب يعضده وهو على فراش الضعف. مهدت مضجعه كله في مرضه» (مزمور ٤١ : ١ـ ٣ ). الكلمة العبرية المترجمة «ينظر» تعني «يفكر في الآخرين ويعتني بهم». أما «المسكين» فتعني اليتيم أو المحتاج.. «يحييه» جاءت بمعنى يُطيل حياته، ليس كمًا فقط بل بالأحرى نوعًا.. «مهدت مضجعه» فمعناها بدلت ضعفه بقوة. لعل تطبيق هذا النص المقدس على «الدعوة للتبني» لا يحتاج لشرح. ولأن التبني في واقعه هو خدمة رحمة، فإنه مثل أي خدمة يرتبط بموهبة.. فمن بين ما ذكره الرسول بولس عن القدرات التي يمنحها الله للمؤمنين للإعلان عن محبته بطريقة تلمس القلب، قال: «المعطي فبسخاء (خاصة الذي يُعطي من عمره لطفل لم يلده)... والراحم فبسرور (الرحمة لا تصدر أبدًا عن اضطرار)» (رومية ١٢ : ٨ ). وهذا يعني أن الاهتمام باليتيم، أو الذي لا سند له، قد يُعبر عنه بموهبة العطاء المعنوي والمادي دون أن تضمه إلى أسرتك، أو أن تُعطيه اسمك.. وهذه عبادة مقبولة تمامًا لدى الرب، أو يُعبر عنها بخدمة الرحمة التي بها تقبله بلا حدود ليكون بالتبني ابنًا أو ابنة يحمل اسمك.. يعيش معك، ويسير في الطريق بجوارك، حتى يودعك على رجاء اللقاء الذي ستسمع فيه الصوت المعزي يقول: «أحسنت أيها العبد الصالح والأمين... ادخل إلى فرح سيدك!»

الجدل المجتمعي، والكنسي أيضًا، حول موضوع التبني ليس بقليل.. المجتمع يحكي بضيق فكر عن المخاوف التي تحيط بخبرة التبني، والغريب أن أكثر المتشددين لهذا الفكر هم من الذين لم يحرموا من ولادة الأبناء! أما بعض الكنسيين فلا يؤيدونه خوفًا من أن تعطل المطالبة به صدور قانون الأحوال الشخصية الموحد للطوائف المسيحية! والموقفان تعوزهما الرحمة-في رأيي، ويحتاجان لمراجعة أمينة قياسًا على فكر الله في الكتاب المقدس، والتقليد المسلّم إلينا من الرسل والآباء الأولين. "هل يمكن أن يتركني ابني بالتبني عندما يكبر فينكسر قلبي؟" "هل ستُحملني هذه الخطوة أعباءً مادية لا أستطيع القيام بها؟" "ماذا إذا انحرفت ابنتي وجلبت لي فضيحة أنا وزوجتي فى غنى عنها؟" "كيف سأجيب على سؤاله عن أصله، وسؤالها: لماذا تخلى عني أبواي؟" "كيف سأواجه شكوك ونظرة جيراني؟" "وماذا عن التعقيدات القانونية للتبني؟" هذه المخاوف وغيرها بعضها واقعي وأغلبها أوهام ناتجة عن عزوفنا عن ارتياد المغامرة، وتجربة الجديد الذي يمكن أن يهدد ما نحرص عليه من استقرار حتى ولو كان زائفًا.. في كل الأحوال إني مؤمن بأن أكبر هذه المخاوف في مجملها أصغر بما لا يقارن بأقل بركة يمكن أن تغمر حياتنا عندما نختبر عمقًا جديدًا للحب الحقيقي، فنفهم لماذا أحبنا الله وتبنانا بفداء ابنه يسوع المسيح.. إن كنا نُحب فقط المولودين منا بالجسد فأي خير فعلنا إذن؟! وما لم نغامر بالإيمان فنعطي حياة ورجاء لطفل أو طفلة بالتبني كيف لنا أن نستمتع بحلاوة نجاح هذه التجربة، فتضيف إلى حياتنا أبعادًا لم تكن تخطر على بالنا، وتعطي لأيام شيخوختنا المستقبلية رجاءً؟! الذين يغامرون باتخاذ خطوات للأمام بالرغم من عدم وضوح الطريق، هم فقط الذين سيعرفون إلى أي مدى من السعادة سيصلون! 

في العهد القديم، نقرأ عن نموذجين للتبني لصبي وفتاة من أروع ما يمكن أن تسمع به أذن.. موسى الذي غامرت أمه بأن تُعطيه لابنة فرعون ابنًا عندما لم يكن باستطاعتها أن تحمي حياته من الهلاك.. فأعده الله ليكبر بحكمة المصريين، من أجل أن يستخدمه لقيادة مرحلة مفصلية في تاريخ الخلاص الذي أعده الله للعالم.. أما الفتاة، فهي أستير التي تبناها ابن عمها مُردخاى، ورباها بحسب وصايا الله، فلما أصبحت ملكة لم تتردد في أن تخاطر بحياتها من أجل أن تنقذ شعبها من الهلاك الذي خطط له الشرير هامان.. ومرة أخرى استخدم الله ابنة بالتبني ليكمل قصده الأبدي بأن يرسل المخلص الذي وعد به! هل ترى أن الفرصة لازالت متاحة لك لخوض هذه المغامرة الرائعة؟ فلربما يتربى في بيتك قائد عظيم مثل «موسى»، أو تخرج من لدنك ملكة على مثال «أستير».. وللحديث بقية في المرة القادمة عن أعظم نموذج للتبني يقدمه لنا الإنجيل، والذي كثيرًا ما نغفل عنه بدون قصد، مع أنه صنع تاريخًا بما فعله بحب وشهامة منقطعي النظير.


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١٣ أكتوبر/تشرين أول ٢٠١٣)

Copyright © 2013 Focus on the Family Middle East. All rights reserved