بقلم: سامي يعقوب

للمزيد من هذه السلسلة:

ليس لأحد حب أعظم من هذا ١

ليس لأحد حب أعظم من هذا ٢ 

ليس لأحد حب أعظم من هذا ٣


وراء كل شهيد من الذين راحوا ضحية لإرهاب خفافيش الظلام قصة يدمى القلب لها، لكنها قصة ترفع من مقامه إلى مكانة يسجلها تاريخ الشعوب بأحرف من نور.. لكن تلك القصص لم تخبرنا فقط عن تأثير فقدان كل منهم على أسرته، لكنها كشفت ما لم يكن يعرفه أحد عن معدن ونوعية الحياة التي عاشها أولئك الأبطال حتى تُوجت بالاستشهاد.

حكى لنا أب عن ابن خطفه الموت كان يظن أنه سيتوكأ عليه في أيام شيخوخته، وبكت أرملة ثكلى ابنها الشهيد مَنْ كان يعول همها مع شقيقاته بعد أبيه. ناهيك عن الزوجة الشابة التي راح حبيبها قبل أن يصل أول مولود له بأسابيع؛ أو العروس التي ضاع حلم زواجها من خطيب كان في طريقه لاستلام شهادة إتمام الخدمة العسكرية، ليرجع فتُزف إليه، لكنه رجع مزينًا بثياب عُرس الأبطال ذات الألوان البهية: الأحمر، والأبيض، والأسود! لم تكن بطولة أولئك الرجال وليدة لحظة استشهادهم؛ فقد بدأت قبل ذلك بأيام طويلة في مشتل أسرة مصرية أصيلة، في نجوع ومدن بلادنا، حيث يربون رجالاً لا يعرفون للحياة معنى إلا إذا عاشوا من أجل القيمة، وأن الحياة لا تستحق أن تُعاش إذا عشناها لأنفسنا فقط !

 

لقد احترقت تلك الشموع لتُضيء طريق وطن كادت ظلمة اختيار خاطىء أن تعصف به.. قبل أن تخرج الملايين لتعطي قبلة حياة لحُلم الكرامة والعدالة ورغيف العيش قبل أن يموت في ظل حكم الملالي الذي اُبتلينا به على غير موعد .

من بعيد سمعت صوت المهاتما غاندي يقول: «قد تسحلون جسدي، وتكسرون عظامي، وتقتلوني.. بهذا يمكنكم أن تأخذوا جسدي الميت، لكن ليس بمقدوركم أبدًا أن تأسروا طاعتي!» تُرى أي طاعة كان يقصدها غاندي؟ ربما تلك الطاعة لنداء الواجب التي شددت عزيمة أحد أشجع رجال مصر ليأخذ حياته على كفه، ويخرج في مهمة من أنبل ما يمكن أن يقوم بها إنسان من أجل حرية وطنه من الإرهاب، وهو يعرف أنه قد لا يعود! لقد توجت رصاصة الغدر اللواء نبيل فراج بطلاً في العلن، فأضيف إلى اسمه لقب «شهيد». لكن ما تداولته وسائل الإعلام عن أنه كان قد كفل ابن زوجته، وأحاطه بحبه وحنانه، وعامله ليس كابن فقط بل كصديق، بحسب شهادة الابن عنه، كشف أنه كان قد توج في الخفاء من قبل بلقب «النبيل»، وهو لقب لا يقل رفعة عن لقب «الشهيد».. ليس غريبًا على «النبيل» الذي أعطى من حياته فرصة حياة لإنسان لم يخرج من صُلبه، أن يقدم حياته بلا تردد «شهيدًا» من أجل أن يحيا أهل بلاده أحرارًا آمنين. لكن الفكر لم يتوقف عند حدود الإعجاب؛ فنموذج حياته وشجاعته وضعاني في مواجهة مع نفسي لأفكر من جديد في حق مُنعنا لعقود طويلة بقوة القانون ألا نقترب منه، بدعوى أنه يخالف الشريعة الإسلامية، مع أن عقيدتنا وكتابنا المقدس لا يحرمه.. إنه حق «التبني ».

 

شئنا أم أبينا، فإن اختيار التبني لغير المسلمين مشمول في نص المادة الثالثة من الدستور المعطل (المسلوق)، والتي يدور حولها الكثير من الجدل هذه الأيام. وسواء استقر الرأي أن يُعطى الحق للمسيحيين واليهود دون غيرهم فى الاحتكام إلى شرائعهم فيما يتعلق بالأحوال الشخصية (في اقصاء متعمد للآخر، وتجاهل لحقيقة وجوده فى المجتمع)؛ أو تغلب المنطق المتحضر لعالم اليوم، فعُدلت هذه المادة التي تُرسخ للطائفية، ليُعطى هذا الحق بدون تمييز لغير المسلمين شمولاً.. فقد شجعني ما فعله الشهيد فراج، النبيل المسلم، أن أُثير من جديد قضية حق المسيحيين في التبني مادام دينهم لا يحرمه. أعرف مقدمًا أن الحديث حول هذا الأمر شائك، فبقدر ما يرفضه المسلمون، فإن الكثير من المسيحيين يتحفظون عليه أيضًا، مع أن جوهر النعمة الإلهية بحسب ما ذكره الرسول بولس ينبع من حقيقة أن الله قد اختارنا للتبني بتدبير الفداء بيسوع المسيح ابنه قبل تأسيس العالم (أفسس 1:5). على أية حال، لقد قررت أن أغامر بخوض حقل الألغام، وأنادي من هذا الركن بإقرار حق التبني للمسيحيين بقانون يستمد قوته من الدستور الجديد.. بناء على وصية الكلمة المقدسة: «افتح فمك لأجل الأخرس في دعوى (أي دفاعًا عن) كل يتيم» ( أمثال ٨: ٣١).

كفالة اليتيم في الإسلام ترتقي بمَنْ يمارسها إلى مرتبة الأنبياء في اليوم الأخير.. ولعلي أتفهم الأسباب التي تبرر المنطق الذي يستند إليه شركاء الوطن لتحريم التبني، بينما يُبيح لمن يحركه قلبه بالشفقة أن يكفل يتيمًا.. على نفس القياس ترفع كلمة الله الاعتناء باليتيم والأرملة إلى مكانة العبادة: «الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم» (يعقوب ١:٢٧). إذن لا خلاف بيننا على حقيقة أن «كفالة اليتيم» أو «تبنيه» هو جزء أصيل من العبادة التي يقبلها الله، بل ويتوقعها منا: «إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات» (هوشع ٦:٦).. بكلمات أخرى الله يدعونا أن نعبر له عن محبتنا بأعمال الرحمة، وليس بممارسة طقوس العبادة! إن منشأ الخلاف حول التبني يرتبط بالتطبيق والنتائج التي تترتب عليه، لكن ما يمكن أن يفض هذا الاشتباك الجدلي هو تفسير مكمل لنص المادة الثالثة يصدر بقانون يسمح للمسيحيين بممارسة حقهم في التبني في إطار ضوابط قانونية وأخلاقية.. ولعلي أظن أن صدور مثل هذا القانون أيسر من محاولة تليين قلوب تقست لغياب التعليم الكتابي الصحيح عن التبني، وإيثارًا للسلامة عن خوض مغامرة غير محسوبة تُعطي حياة ومستقبلاً لإنسان حرمته منهما ظروف لم تكن من اختياره .

بينما كنت أعد لهذا الحديث قرأت مجددًا كورنثوس الأولى ١٣، وفي استنارة غير مسبوقة وجدت أن كل كلمة فيها تؤكد بقوة وعمق المفهوم المسيحي للتبني.. التبني بحسب فكر الله عمل يقاس على وصف المحبة المذكور في هذه الأنشودة.. وقراءة النص من هذا المنظور يدعم الدعوة لتبني أبناء لم نلدهم بالجسد، كما يأخذنا إلى فهم أشمل عن الإيمان، والرجاء، والمحبة. فبينما نحاول عبر الأيام أن نجمع أشياء لها قيمة، يظل إيماننا هو أثمن ما نمتلكه.. عندما تتبنى طفلاً ستُفاجأ بمحبة له أو لها تنسكب في قلبك بشكل لم تكن تتوقعه؛ عندئذ سيسرك أن تُعطيه كل ما تملكه.. لكن أثمن ما يمكن أن تتركه لأبنائك هو ميراث الإيمان بالنعمة المخلصة التي لنا في يسوع المسيح. التبني يعطي رجاءً لأطفال لا تسمح الظروف التي وُلدوا فيها أن تتاح لهم فرصة الاستمتاع بدفء حضن يضمهم، وأن يكبروا في بيت يفيض بالمحبة والاهتمام ليصبحوا رجالاً ونساءً ناجحين ومؤثرين أينما يزرعهم الله. الأهم أن التبني هو أعظم تعبير عن المحبة المسيحية.. فبدون محبة لا يوجد سبب وجيه لقبول مسؤولية ضم ابن أو ابنة بالتبني إلى حياة أسرة، بقرار جريء لزوجين يمكن أن يثري حياتهما باختبار إيمان ممتد وممتع، عبر عنه السيد المسيح: «ليس لأحد حب أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه (يستثمر حياته) لأجل أحبائه» (يوحنا ١٥: ١٣) .. وإلى بقية الحديث في اللقاء القادم عما يُشجعنا كمسيحيين على تجربة مغامرة التبني، أو ما يعوقنا عن اتخاذ مبادرة المحبة الاستراتيجية هذه .


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢٩ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٣)

Copyright © 2013 Focus on the Family Middle East. All rights reserved