بقلم: سامي يعقوب

للمزيد من هذه السلسلة:

ليس لأحد حب أعظم من هذا ١        

ليس لأحد حب أعظم من هذا ٢        

ليس لأحد حب أعظم من هذا ٣


كان كوكبًا لامعًا، لكن ربما وجوده بالقرب من نجم ساطع جعل الأضواء لم تُسلط عليه بقدر ما يستحق.. كان يعرف الشريعة جيدًا، لكنه كان أصيلاً و شهمًا فلم يُرد أن يفضحها لأنها وُجدت حُبلى قبل أن يتزوجا، وقرر أن يتركها في السر!

اليوم عندما نقرأ في الإنجيل لا نتوقف عادة لنفكر في الصراع الذي تعذب به قبل أن يحسم أمره، ويقبل مخاطرة أن يتبنى ابنًا كان متأكدًا أنه ليس ابنه.. أما هو فلم ير آنذاك تفسيرًا آخر لما سمعه عن خطيبته، وكل ما كان عليه هو أن يجد شاهدين، لتُرجم بحسب الشريعة، لكنه لم يفعل! 

لعل أحلك اللحظات إظلامًا كانت تلك التي عرف فيها يوسف أن مريم خطيبته حُبلى، لكن تلك اللحظات هي التي أظهرت عظمة معدنه.. ففي وسط حيرته ظهر له ملاك الرب، وناداه «يا يوسف ابن داود».. وكأن الملاك أراد أن يُذكره بحقيقة نسبه إلى العائلة الملكية، وهو النجار البسيط، قبل أن يبلغه بالتكليف الإلهي للاعتناء بالعذراء المباركة والمولود منها! وإذ قبل بتواضع أن يخضع لإرادة الله، تحولت معاناته لأعظم فرصة أتيحت لإنسان أن يُصبح جزءًا من ترتيبات الله لإتمام خطة الفداء، وأن يكون الشاهد الأول في التاريخ على الميلاد العذراوي للمسيّا! ربما لا يبدو يوسف للكثيرين سوى مجرد ظل في خلفية أيقونات العائلة المقدسة، مع أن ما حدث معه كان أعظم إعلان للثقة الإلهية في شخص إنسان. ولكي ندرك مقدار هذه الثقة لنتخيل أن أبًا أراد أن يستودع ابنه لرجل آخر ليعتني به.. فما مواصفات مَنْ يختاره؟ 

كان يوسف رجلاً هادئًا قليل الكلام، لكن أعماله عبرت عن شخصيته أفضل جدًا من أي كلمات.. لقد غامر بسمعته، واختار بشجاعة أن يرتفع فوق حرفية الناموس، فدخل التاريخ بتبنيه الطفل يسوع. تحمّل صعابًا لم تكن تخطر على باله.. في بيت لحم لم يجد مكانًا، وفي الطريق إلى مصر واجه بشجاعة أخطارًا هائلة.. وعندما رجع إلى الناصرة استمر في تكريس حياته للاهتمام بالابن الذي أعطاه اسمه، وحماه هو وأمه من قسوة الشريعة وشر الحاكم.. أعتقد أنه لم يحب أب ابنه مثلما أحب يوسف يسوع! استمر يوسف يعامل يسوع كابنه، الذي ملأ بيته بفيض من الحب والفرح والرجاء. أراهما لا يتوقفان عن الحديث معًا في الطريق.. يضحكان كثيرًا في بيتهما، وقد امتلأت حياتهما بالبهجة مع العذراء مريم، التي كانت قريبة منهما تراقب كل ما يحدث مع ابنها، وتحفظه في قلبها.. بالتأكيد لم يمر يوم في حياة العائلة المقدسة دون أن يقرأ يوسف جزءًا من النصوص المقدسة، ثم يركعون ليصلوا معًا بحسب الوصية. لقد تحمل الكثير ليتمم المسؤولية التي قبلها من الله، قبل أن يأخذ بعض الخطوات إلى الوراء، ويتوارى بهدوء عن المشهد.

لقد كان قبول يوسف للعطية الإلهية مثالاً لكل أب يريد أن يميز حياته بطاعة الله أكثر من الخضوع لتقاليد المجتمع الظالمة، وما صاغه البشر لما يجوز وما لا يُسمح به.. لقد تمنيت دائمًا أن أكون أبًا على مثاله. واليوم أشجع كل زوجين طال انتظارهما لولادة أبناء أن يحتذيا بمثاله، ويدركا أن رسالة الملاك ليوسف تعلن ما يمكن أن يصنعه الله اليوم في حياتهما بالتبني!

الإيمان المسيحي قائم على ما يعطي التبني مكانة خاصة؛ فالعلاقة بين «التبني بالجسد» و«إنجيل التبني» الذي صرنا به أبناء لله من خلال المسيح لا تحتاج إلى أي شرح. لنقف هنا ونفكر قليلاً في هذا الحق الإلهي المقدس.. طفل غير مرغوب فيه، وغير محبوب.. تخلى عنه أبوه، وتريد أمه التخلص منه.. لا حول له أو قوة، ولا يوجد مَنْ يريد أن يسنده أو يحميه. فجأة، وعلى غير توقع أو استحقاق، يُرحب به في بيت جديد، يجد فيه الحب والقبول والعناية من أبوين اختارا بإرادتهما الحرة أن يكون ابنًا أو ابنة يحمل اسمهما وينتقل إليه ميراثهما. لم يكن لهذا الطفل، بحسب قانون البشر، الحق أن يعيش أو يُحب، لكنه وجد مَنْ يحبه، ويعطيه رجاء في الحياة، بالرغم من كل ظروف مجيئه إلى العالم.. لم يكن يستطيع أن يفعل شيئًا لكي يُقبل، لكنه وجد بالنعمة قبولاً؛ فانتمى إلى أبوين لم يلداه.. ألا يعكس هذا صورة لما يقوله الروح القدس على فم بولس الرسول: «مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم... إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته، لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب» (أفسس ١ : ٣ ـ ٦).

أعجبني ما كتبته الأديبة المعروفة نوال السعداوي، في المصري اليوم بتاريخ ١١ / ٥ / ٢٠١٣، تحت عنوان: إباحة التبني وانتصار العدل على الشرع، وأقتبس هنا بعضًا مما قالت: «الأطفال هم أول الضحايا لأي ظلم يقع في بلادنا تحت اسم شرع الله، رغم أن كلمة الله ترمز إلى العدل في كل الشرائع. كتبت لأكثر من نصف قرن من أجل الملايين من ضحايا التطبيق الأعمى للشرائع، والتجاهل الكامل لمعنى الله أو جوهر العدل... نحن في حاجة إلى الشجاعة الأدبية في كل مجالات الحياة العامة والخاصة.. نحن في حاجة إلى الثقة بالنفس والعقل والمنطق السليم، لنعيش العدل والصدق والنزاهة، وإن كسرنا المحرمات، وإن خالفنا المعلوم من الدين والموروث في السياسة والمقدس في النظام الحاكم.» 

من هذا الركن في «وطني» أضم صوتي إلى السعداوي بالتأكيد على أن ثورة يناير ٢٠١١ قامت لإسقاط النظام، وما فيه من قوانين وتشريعات ظالمة، متسائلاً معها: «هل هناك ظلم أكثر من حرمان الأطفال البؤساء من حقوقهم المادية والمعنوية والإنسانية، لمجرد عبادتنا للطقوس والنصوص والشرائع والشكليات؟! هل نقبل أن يُعاقب الأطفال الأبرياء على جرائم لم يشاركوا فيها، رغم أن دين الدولة يدعوهم أحباب الله؟!» يا ليت أعضاء لجنة الخمسين يستمعون لهذا النداء.. أعتقد أنهم سيفعلون إذا انضم صوتك إلى صوتي للمطالبة بحق المسيحي في التبني، ما دامت شريعته السماوية، التي يعطيه الدستور حق الاحتكام إليها في الأحوال الشخصية، تسمح له بذلك.

في يوم لقاء أولياء الأمور بمدرسة ابتدائية، سألت طفلة صغيرة زميلتها: «ليه انتي مش شبه مامتك؟» فأجابتها بتلقائية: «لأنها اتبنتني!» فاستمرت تسألها ببراءة الطفولة: «يعني ايه اتبنتك؟» فأجابتها بنفس البراءة: «يعني أنا ماكبرتش في بطنها، لكني اتولدت في قلبها!» 

أدعو كل مَنْ تبنى طفلاً أن يكتب لي عن خبرته أيًا كانت، فلربما تشجع الآخرين أن يفعلوا مثلك، أو يتجنبوا أخطاءك.. كذلك يسعدني أن تكتب لي إذا كنت متردد ًا أن تتخذ قرارًا بالتبني خوفًا مما يمكن أن يترتب عليه من نتائج، فلعلي أستطيع أن أقف إلى جوارك. ولنشترك معًا في المطالبة كمسيحيين بالحق في التبني، فننقذ آلاف الأطفال من الموت أو التشرد: «تعلموا فعل الخير.. اطلبوا الحق.. أنصفوا المظلوم.. اقضوا لليتيم.. حاموا عن الأرملة» (إشعياء ١ : ١٧).


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢٧ أكتوبر/تشرين أول ٢٠١٣)

Copyright © 2013 Focus on the Family Middle East. All rights reserved